lundi 26 septembre 2011

الخصوصية المترنحة

  



كنت أشاهد ، صدفة، حصة عن حياة فنان جزائري راحل. و كنت أعرف أنه يجيد العزف على آلة العود      وما  شدني  لآخر  اللقاء  الجهود المضنية  التي كان يبذلها مقدم الحصة .لقد ظل طوال المدة  يجتهد      ليثبت أن الفنان الراحل  لم يكن مقلدا للمشارقة في عزفه وأدائه . انتظرت حتى أكتشف  خصوصية عزفه  وتفرد أدائه  وتميزه عن العزف المشرقي . غير أن اللقاء انتهى  ولم نعرف إلا كونه مختلف عن المشارقة ،دون الوقوف عند  طبيعة الاختلاف ولا تفرد العازف ولا إضافاته  الفنية   . علما أن آلة العود صناعة شرقية صرفة منبتها و منبعها و جميع مدارسها شرقية خالصة .
ذكرتني بهذه الواقعة ،التي شاهدتها منذ فترة ، ندوة حول  الشيخ الجليل عبد الحميد بن باديس،  فوجدت  تشابها كبيرا إلى حد التماهي  بين ذاك الذي تحدث عن عازف العود  وتميزه عن المشارقة ، وبين المتحدثين  عن الشيخ الجليل بن باديس وتميزه  عن المشارقةراح أحدهم  ، وبثقة لا حدود لها ، يؤكد أن بن باديس لم يكن مقلدا  لا لمحمد عبده  و لا للسلفية  الوهابية ما جعله يتميز   ويتفرد عن باقي الدعاة و المصلحين المعاصرين له .لقد انتظرت ،كما انتظرت قبله صاحب العود ،أن يشرح على الأقل السمات العامة   لهذا التفرد و لهذه  الخصوصية. لكن الندوة انتهت  ولم نعرف  من الحاضرين عن  خصوصية  وتفرد الشيخ بن باديس إلا في  تمجيده  و تأكيده  ،كما قال أحدهم ، على انتمائه  الصنهاجي و بلاد زواوة .
هذه  المماحكات  قديمة قدم الحضارة العربية الإسلامية  لما كان المشارقة يرددون  ، هذه بضاعتنا ردت إلينا ، عن القادم إليهم من الأندلس، أدبا كان أم فلسفة  .كلنا نتذكر  في التاريخ القديم  ذلك السجال الكبير  بين ابن  رشد  وأبو حامد الغزالي  بين  "التهافت "و "تهافت التهافت "  .
أما في التاريخ المعاصر ، دشن المعركة من جديد الأشقاء المغاربة .   مع عبد الله العروي في كتابيه  "العرب والفكر التاريخي" و " الأيديولجيا العربية المعاصرة " عندما حكم على الفكر المشرقي  بالا تاريخية و القصور  من  خلال النماذج الثلاثة  الشيخ  و داعية التقنية و الليبرالي . محمد عبده ، وسلامة وموسى ولطفي السيد . ثم اشتدت المعركة وحمى  وطيسها مع محمد عابد الجابري الذي كان يرى في نفسه كانط العرب من خلال  مشروعه النقدي ،  لما حكم على المشرق  أنه صوفي عرفاني لا عقلاني  ،  بينما جعل العقل والعقلانية خاصية مغربية  
 المشرق لم يسكت ولم يقبل أن يتطاول عليه البربر  وبدأت معركة أخرى  في منتصف الثمانينيات على صفحات مجلة اليوم السابع التي كانت تصدر من باريس ،معركة لم تختلف في جوهرها عن داحس و الغبراء.
رشّح المشرق  فارسه المغوار  الذي لا يشق له غبار ،جورج طرابيشي لمنازلة محمد عابد الجابري  من خلال دراسة نقدية شاملة لإسهامات الجابري الفكرية . هنا أخذت المعركة منعرجا آخرا  لما تدخل التوانسة و الجزائريين  ،فتشكلت فرقا  ، الميمنة و الميسرة  وقلب الهجوم، الميمنة بقيادة   هشام جعيط  و المسيرة بقيادة  عبد المالك  مرتاض. ودخل الجميع في هجوم شامل في معركة يعلوها غبار الزمن وحطام التاريخ  المتراكم
إن ذلك السجال ، من بابه إلى محرابه ، خارج التاريخ ، خارج العصر ، لأن العصر و الفكر المعاصر إحدى سماته  الأساسية  التواصل وليس القطيعة .

mardi 20 septembre 2011

العلمانية التي أثمرت خير النساء


ا
             مقال نشر بجريدة الخبر الأسبوعي  بعد أول فوز للإسلاميين في تركيا
        وبعد زيارة الخاقان  الأخيرة  وتصريحاته حول العلمانية  بدا لي أو تهيأ أن المقال لازال يملك راهنية
                                                   
العدد  469 فيفي2008
             


ليس من السهل تناول التجربة التركية ،بل لا يجوز علميا ، تناول مسيرة ثمانين حولا في أسطر معدودات فهي تحتاج إلى بحوث معمقة تتكفل بها مؤسسات بوصفها أول تجربة علمانية في عالم الإسلام.لازالت إلى يومنا مثار جدل واسع، بين من يرى انجازاتها أوصلت تركيا إلى بر الآمان، و من بدا له بنيانها يتهاوى بسب هشاشة الأسس التي بنيت عليها ، بعد ما وطأت قدما خير النساء بحجابها المصمم بعناية فائقة، رأس الدولة برفقة زوجها الغول .
و بين هذا وذاك من يرى أن هذه أحكام معيارية تفتقد إلى العمق التاريخي وقوانينه الصارمة التي أثمرت هذه التجربة بكل انجازاتها و إخفاقاتها وتداعياتها
لهذا كله لا نطمح ، في هذه الأسطر ، أكثر من طرح جملة من التساؤلات لأننا معنيون مباشرة بهذه التجربة بخاصة بعد فشل معظم التجارب التي عرفتها بعض الأقطار العربية من بينها تجربة الإسلاميين في بلادنا. فتحولت أنظار الكثير من المهتمين و الباحثين و المفكرين العرب إلى التجربة التركية لعلها تكون عامل استلهام أو حتى تبني بعض صيغها .
لهذا تزداد أهمية تناول التجربة التركية لبناء موقف فكري بعيدا عن روح الإدانة أو التمجيد لأن الكثير من الإجابات، هي أقرب إلى الهتافات تفوح منها رائحة التشفي أبعدها عن التحليل الموضوعي، بخاصة من هم محسوبون على التيار الإسلامي. لا يضاهيهم إلا أولئك المتحسرين الذين بحوا من مناجاة العسكر لإنقاذهم من فلول الرجعية و بقايا سلالة آل عثمان. كما رددوا في شعاراتهم، التي تنطوي على الكثير من الأنانية و ضيق الأفق وعدم التبصر. فلم يعودوا يبصروا في تركيا كلها، سوى ضريح أتاتورك الذي حولوه إلى شيخ طريقة متوسلين متضرعين لإنقاذهم من الهول القادم .
إن التجربة التركية ، في تقديرنا ، لا يمكن عزلها عن تلك الحركة الكبرى التي عرفتها الإمبراطورية العثمانية في منتصف القرن التاسع عشر، التي أصطلح على تسميتها بالنهضة، بعد صدمة الحداثة التي زعزعت التماسك الفكري و الأيديولوجي للإمبراطورية بما فيها الولايات العربية .
لقد عرفت تلك المرحلة، محاولة كبرى للاستجابة لنداء التاريخ للشرق ، بعدما حسم الموقف في الغرب لصالح الحداثة ومشروعها الكوني الكبير القائم على الدولة الأمة. هذا المفهوم الأخير كان له، أكثر من غيره، بالغ التأثير على جميع الحركات الإصلاحية التي عملت على الارتقاء بتاريخ الشرق من دولة الخلافة إلى الدولة  القومية العلمانية العصرية.
ونظرا لحداثة المفهوم  فقد  اكتنفه الكثير من الالتباس لما رأى فيه البعض مطلبا يلبي احتياجا خارجيا يعجل بالقضاء على رجل أوروبا المريض لاقتسام تركته ، بخاصة لما تبنته نخب فكرية عصرية محلية من خارج الذاتية الإسلامية وفر لها وضعها الاجتماعي الاطلاع على أوروبا وعلى العالم الحديث فحسموا أمرهم واقتنعوا أن لا مناص للإمبراطورية إلا العالم الحديث أو الانقراض ..
ضمن  هذا  المنعرج التاريخي الحاسم  عرفت الإمبراطورية صعود حركات قومية مختلفة تسعى للانفصال والاستقلال و تصفية الحساب التاريخي مع مركز الخلافة التي كانت تتعامل مع القوميات بتعالي وفوقية ورعونة عرقية . تجلت بوضوح  في سياسة التتريك و الصعود القوي للقومية الطورانية التي كانت خالية من أي مضمون حضاري أو إنساني و لم تتمثل أي مشروع فكري وهذا يعود أساسا إلى كيان الدولة العثمانية التي قامت على أيديولوجية الحرب و المحاربين ،مما جعل القومية الطورانية تطور لاحقا مواقف عنصرية معادية للأجانب مركزة على العنصر العربي . فاستنهض   المكبوت في الوجدان العربي مذكرا الأعاجم أن العرب هم حملة وحماة  وحاملي  رسالة الإسلام ، و أن النبي عربي و القرآن عربي والدعوة موجهة أساسا للعرب. هذه المفردات ذات الرنين القومي، امتدت حد التشكيك في خلافة آل عثمان.ذلك كان ردا على سياسة التتريك وإبعاد العنصر العربي من عضوية المجتمع و إقصاء اللغة العربية التي أصبحت لغة الأهالي و حلت محلها اللغة التركية  التي  أصبحت لغة السلاطين و النبالات العسكرية . و أصبح ينظر إلى العرب، و معهم  دينهم ، دخلاء ، تحت ضغط القومية الطورانية وجمعياتها وأحزابها المختلفة التي لم تقف عند حدود العنصر العربي ، بل امتدت لتشمل حضارتهم  وتاريخهم  وثقافتهم   ،بخاصة بعد ما تحول الإسلام على يد الفقهاء العثمانيين إلى جملة من المأثورات التقليدية تكرس الجمود و الفوضى وتمجيد السلاطين وتعدهم ظل الله على الأرض .
في ظل هذا المناخ الفكري  الشوفيني المعادي للأجانب تشكلت القومية التركية وأخذت خصائصها وملامحها العامة. و ضمن هذا المزاج القومي المتطرف انغلقت على نفسها معتبرة ارتباطها بالعرب والإسلام و الخلافة سبب تخلف تركيا . ما  جعل النخب التركية الجديدة تولي وجها شطر الغرب ومؤسساته العصرية مؤكدة ارتباطها القومي أكثر من ولاءها الإسلامي.
إنه المناخ ذاته، الذي نشأ وترعرع ،و من منابعه ارتوى كمال أتاتورك .لقد وجدت فيه القومية التركية الصاعدة تتويجها و ذروتها بوصفه جنرالا منتصرا في حرب ضد أعداء تركيا، فتحول الذئب الأغبر ،كما كان يلقب أتاتورك ، القادم من جبال الأناضول ، إلى بطل قومي و رمز الأمة وحامي وحدتها القومية والقائد الضرورة الذي تجلت فيه روح الأمة و أيديولوجيتها القومية التي لبست لبوسا علمانيا.
هذه العوامل المتداخلة وغيرها  شكلت خصوصية القومية التركية و أيديولوجيتها العلمانية التي كانت تشبه قيادة أركان حرب. خاضت حروبا ، سابقا ،ضد الأعراق و القوميات و الأجانب. و لا حقا ،بعدما أصبحت الأيديولوجية الرسمية للدولة التركية الحديثة ، ضد جميع التكوينات الاجتماعية ما قبل أمة ، وضد جميع البني التقليدية ،كما بذلت جهود مضنية لنسف جميع مؤسسات المجتمع التقليدي  كما  سعت إلى اجتثاث كل التصورات والأفكار التي شكلت العالم القديم ، و ممثليه من فقهاء و أئمة المساجد ومؤذنين بسطاء ،سحلوا إلى ساحات الإعدام، لأن هؤلاء المشعوذين ، كما كانت تصفهم لائحة الإعدام ،  يرددون كلاما مبهما يقولون أنه نزل من السماء.
.لقد أفرغ أتاتورك، وتلامذته من بعده ، العلمانية من أي مضمون ديمقراطي أو إنساني، كما لم تعرف  أي مضامين أخرى مثل حقوق البشر و حقوق الأقليات ، أو المواطنة و حق الاختلاف التي تعد ركائز أساسية لأي علمانية متحضرة، لأنها، إضافة لما ذكرناه في سياق نشأتها التاريخية ، زُرعت في أرض شرقية إحدى سمتها التاريخية الاستبداد و الطغيان . ذلك كله يشرح لنا ، حاليا، سر غياب تركيا فكريا وثقافيا

هنا تجدر الإشارة،  بل من الأهمية بمكان  التذكير ،أن العلمانية لا تحمل في ذاتها أي مضمون أيديولوجي، قد يكون العلماني يساريا، كما قد يكون يمينيا، أو قوميا متعصبا.كما قد يكون ممثلا لأكثر الأنظمة استبدادا وطغيانا.و قد يكون المتدين علمانيا. فهي تتلون بلون حاملها الاجتماعي .
هنا ينشأ تساؤل في إطار علاقة الخاص بالعام  .أو ما يسميه  البعض الخصوصية الحضارية و الحضارة  الغربية ،  هل تكون العلمانية  بالضرورة    صورة مستخرجة من الأصل الأوروبي  . وهذا يقودنا إلى تساؤل أعمق   : هل تُعد أوروبا و النموذج الأوروبي ،النموذج الأمثل للتقدم، وسقف التاريخ الذي يتحتم على كل شعب الامتثال لمشيئته ؟ أم أن للتقدم مسالك مختلفة قد لا يكون النموذج الأوروبي أفضلها ؟
إنه الرهان الذي يواجه إسلامي تركيا، ذلك مرهون بعوامل عدة من بينها ،أهمية وضرورة استثمار التجربة  التاريخية التركية.التي تحتاج وبدون شك إلى إدخال الكثير من التعديلات عليها .لكن ليس إلى حد القطيعة ،  فهي تعد قاسما مشتركا للشعب التركي و تراثا حضاريا للأمة التركية أغنت الهوية التركية بكثير من المضامين العصرية .
رغم أخطائها الكبيرة ،و برغم الدم و الدموع، تعد أول تجربة في العالم الإسلامي تخطت الكثير من العقبات و المعوقات التاريخية وقدمت إنجازات على جميع الأصعدة وضعت الأمة التركية في مقدمة و على رأس العالم الإسلامي .
إن الانطلاق من حاضر تركيا ،وليس من أدنى ،ومن منجزاتها الحضارية تعد ضمانة أساسية للتعامل مع منطق العصر وحقائقه العلمية و منجزاته الحضارية تكون أساسا ومنطلقا لصياغة مشروع حضاري إنساني مبني على قيم العدل والديمقراطية وحقوق البشر ، يستلهم من عظمة الإسلام و روحه العالية ، معاني المحبة و التسامح، و من قيمه الإنسانية الراقية، حرارة التضامن الإنساني و تعزيز روح الجماعة ،تضفي على التجربة التركية لمسة إنسانية انتظرتها طويلا، تُدخل الدفء و السكينة على روح أتاتورك وتطرد الأرواح الشريرة التي تحوم حول ضريحه .
لكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه، إن هذه التجربة الإسلامية وُلدت وهي ملفوفة بمخاطر متنوعة داخلية وخارجية .
إن من سكت من حراس الدار، وسمح لخير النساء أن تتبختر بحجابها، المدلل ،داخل ممرات و قاعات رأس الدولة . لم يسكت حبا و طواعية، لقد كان يلبي نداء خارجيا ،مرددا، دعوها إنها مأمورة .
إن عبد الله و الطيب و كل الطيبين الآخرين، بدون أدنى شك هم رمز الاستقامة و الشرف و الصدق، والكفاءة ونظافة اليد ، وتعبير حقيقي عن إرادة شعبية عارمة. لكن وصولهم لسدة لم يكن بمعزل عن إرادة خارجية أسهمت في هذا الوصول، تهدف إلى تشكيل المنطقة وفق مصالحها الإستراتيجية.
هل ينجح الإسلاميون في السيطرة على قيادة السفينة بنجاح و يقودوا تركيا إلى بر الأمان، تصبح بذلك قاطرة العالم الإسلامي نحو التقدم و الازدهار ، أم يعيد التاريخ نفسه و يذكرنا بصراع العثمانيين والصفاويين فتتحول تجربتهم إلى مجرد لعبة تتقاذفها المصالح الدولية فتتحول تركيا ومن ورائها العالم الإسلامي إلى رقة ف
ي مهب الريح

lundi 19 septembre 2011


                                     الفكر العربي : جدل المقدس و المقتبس    
                                قراءة في خطاب الإصلاح الديني في عصر النهضة


                                            

ملاحظات منهجية

إن ما يجعلنا نقتنع بأهمية الوقوف عند القضايا التي واجهت عصر النهضة العربية في منتصف القرن التاسع عشر، الذي يعبر عنه أحيانا بصدمة الحداثة، ليس الغاية منه التأريخ لبداية عصر النهضة، بل هو وعينا بضرورة الوقوف عند قضايا لا تزال موضوع خلاف واجتهادات عديدة، ومثار جدل واسع على ساحة الفكر العربي المعاصر، مثل  الوافد و الموروث ، التراث و العصر  ،الأصالة والمعاصرة، الأنا و الآخر، المقدس والمقتبس وعلاقتنا بالغرب المتقدم ومرجعياته المختلفة.
إن هذه المرحلة تعد بدون أدنى الشك المرحلة المؤسسة للخطاب الحداثي العربي التي تم في إطارها إنجاز صياغة محددة لإشكالية الحداثة الغربية على مستوى التاريخ الخاص أو على المستوى العام. وقد أنجز ذلك كله ضمن شروط تاريخية محددة.
كما أننا نحاول توضيح المفاهيم والصيغ التي تم بناؤها للتعبير بواسطتها عن هذه الإشكالية ومدى استجابة الرواد الأوائل للمهام التاريخية والحضارية التي فرضتها المرحلة الجديدة.
إن هذه القراءة لعصر النهضة العربية تسهم في تشكيل وعي نقدي من أجل تجاوز ما لم يعد مستجيبا لمرحلتنا المعاصرة. وما يزيد من أهمية المراجعة أن بعض التيارات الفكرية المعاصرة لم تتوصل حتى الآن إلى  فهم ضرورة القطيعة مع فكر النهضة ترتقي بها إلى مستوى أعلى من مستوى القطيعة التي أنجزتها النهضة العربية مع المرحلة السابقة عليها. كما أن الزمان الذي يفصلنا عن النهضة لم يتحول بعد إلى ماض ،بل إن الكثير من الإجابات التي تقدم لنا في الألفية الثالثة، تجيز لنا القول أنها في أحيان كثيرة متخلفة عن إجابات الرواد الأوائل.
جملة هذه الأسباب وغيرها،لا تجعل العودة إلى عصر النهضة العربية مشروعة فحسب، بل ضرورية لأن الموقف من فكر النهضة هو، بمعنى  من المعاني، موقف  من قضايانا الراهنة. وبصرف النظر عن التقويم الإيجابي أو السلبي لهذا العصر، فإن السؤال   الشديد الأهمية، هل نحن بحاجة إلى إعادة إنتاج الخطاب النهضوي الذي تبلور ضمن شروط ومعطيات تاريخية مختلفة، أم أن الشروط التاريخية الجديدة ، بخاصة ما تطرحه ظاهرة العولمة وما تنتجه من مؤثرات، تدعونا إلى التفكير في شروط أخرى جديدة غير تلك التي حكمت عصر النهضة، شروط تستجيب لمهام الحاضر الشديد التشابك والتعقيد.
وفوق ذلك فإن محاولة تأسيس فهم موضوعي لمرحلة مهمة من مراحل تاريخنا الثقافي والحضاري والاجتماعي خطوة ضرورية إذا أردنا أن تكون إجابتنا ذات أهمية، وفي نفس الوقت مستجيبة للمهام التاريخية والحضارية المطلوب إنجازها في هذه المرحلة من حياتنا الشديدة التعقيد، و بخاصة مع طوفان العولمة أو بتعبير أحد الباحثين" فخ العولمة" التي تسعى إلى الهيمنة على الهويات من خلال إيديولوجييها الجدد الذين  يبشرون بنهاية التاريخ وصدام الحضارات.
وما يزيد، أيضا من أهمية العودة إلى الخطاب النهضوي، أن أصواتا قوية ترفع من جديد راية العودة إلى الأسلاف، وهذه الدعوة في جوهرها ماضوية ،جاعلة من عصر النهضة العربي مرتكزا لبناء جملة من المفاهيم والصيغ لتشكل مرتكزا لمشروعها، مستغلة بذلك تشابه بعض المشكلات، بخاصة مسألة التراث و مكانته في حياتنا  العربية  المعاصرة،لتؤكد أن المهام التي واجهها الرواد الأوائل هي ذاتها المشكلات المراد تحقيقها اليوم ،هادفة من وراء ذلك، ليس العودة فقط لمواقع معينة، بل من أجل الالتفاف على مكاسب حققها الفكر العربي المعاصر، و أصبحت جزءا مهما من بنيته الفكرية.
وإذا كانت تلك المحاولات تنطلق من التشابه الخارجي بين المرحلتين مثل الثقافة  القديمة  والعلاقة مع الغرب المتقدم ،والإسلام ومسألة التقدم الاجتماعي والحضاري والعلمانية والديمقراطية، فإنه يبقى وصفا خارجيا لا ينفذ إلى صلب الموضوع. لأن تشابه المشكلات لا ينتج بالضرورة نفس الحلول .
هذا الطرح ،بهذه الكيفية، يتجاهل مسألة التقدم التاريخي والاجتماعي. كما يتجاهل الشروط التاريخية المحلية والعالمية التي نشأ في ظلها فكر النهضة التي تختلف عن الشروط الراهنة والمؤثرات الجديدة المحلية والعالمية التي تشكل إطار الفكر العربي المعاصر.
هذه الأسباب وغيرها، بخاصة في هذه المرحلة التي اشتد فيها الميل القوى نحو امتلاك عقلاني للتاريخ. الذي لا يعني إلا الامتلاك النظري للواقع وفهمه ضمن شروطه الموضوعية فينزع عنه أي تعالي أو مفارقة تاريخية، هذه الأسباب هي التي جعلتنا نلاحق إشكالية النهضة العربية من أجل فهم وشرح العجز عن متابعة المهمات الحضارية  والتاريخية المطروحة علينا، وشرح سر الركود التاريخي من أجل تأسيس وعي تاريخي ذاتي متقدم .
 ويعد من الأهمية بمكان التذكير أن عصر النهضة العربية  قد استدعى جهازا  مفاهميا لم يكن ضمن قاموس ومفردات تلك المرحلة التاريخية   . لهذا لاحقته تهم   ،التماهي والمماثلة، واستدعاء تاريخ الآخر ليحل محل التاريخ الخاص، وإلغاء الذات والاستسلام  العبودي أمام الآخر.
تلك التساؤلات قد تبدو في شكلها علمية ومحايدة، لكنها تنتهي إلى عد الحداثة ومشروعها الحضاري الكوني وإبداعاتها  المتنوعة و فعاليتها الإنسانية،حكرا على تاريخ معين و أمة معينة.
إن هذا النوع من التفكير  ، شاء أم أبى ، يستعيد جميع أطروحات الاستشراق حول الدوائر الحضارية المغلقة، كما ينظر إلى التاريخ الخاص بمعزول عن سياقه العالمي ،فيصبح التراث العربي قائم على الثبات والتكرار والاستمرارية التاريخية والوحدة مع الذات فتجعل منه نسقا قائما بذاته، تؤدي في نهاية التحليل إلى إلغاء وحدة التاريخ الإنساني والتنكر لفكرة التقدم التراكمي للإنسانية.بذلك يصبح ، وكما عبر عنه أحد المفكرين العرب، ضربا من الاستشراق المعكوس.
إن سؤال تخطي التخلف وتحقيق التقدم  يطرحه  التاريخ على هذا الشعب أو ذاك ،أو هذه الأمة   أو تلك  عندما يصبح مصير ها مهدد   .أن أوروبا لم تطرح على نفسها سؤال الحداثة إلا عندما وجدت نفسها وجها لوجه مع انحطاط القرون الوسطى الذي كرسه التحالف الكنسي الإقطاعي بل إن مصطلح الظلامية نشأ أساسا كتعبير عن قوى كانت تقف عائق في وجه التقدم التاريخي مما استلزم ضرورة تبديد هذا الظلام وتأسيس طريق الأنوار والحداثة .
ولما أعيد طرح هذا السؤال في عصر النهضة العربية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر لم يكن الهدف إعادة إنتاج تجربة أوروبا بحذافيرها.أو استعادة إحدى مراحل تاريخها لإعادة إنتاجها ومطابقتها. بل لقد كان هدف الرواد الأوائل توطين قيم إنسانية عامة قادرة على الإسهام على صياغة وعي تاريخي وحضاري عربــي.
لقد انتهت إلى الفشل جميع التجارب والمحاولات التي كانت تسعى لإعادة إنتاج التاريخ نفسه سواء تم باسم العالمية والكونية ،أو تمت باسم الأصالة والخصوصية. إنهما يتقاطعان عند نقطة واحدة التنكر  لروح العصر، الأولى ترى أن الأسلاف لم ينجزوا إلا شيئا لا يستحق الذكر، بذلك تلغي كل ما هو قوي وحيوي وقادر على الإسهام في صياغة وعي متقدم. أما النظرة الثانية السلفية التي تعلن أن الأسلاف قالوا كل شيء ولم يتركوا شيئا للأخلاف، الأولى تسقطنا في تبعية واضحة للآخر  و هنا الغرب ،  والثانية تسقطنا في تبعية واضحة للآخر أيضا  و هنا الماضي  .
إن عصر النهضة  العربية حاول تجاوز هذه النظرة  الميكانيكية ساعيا إلى أيجاد صيغة ملائمة مبدعة في علاقتنا مع الآخر .وإذا كان البعض يرى أن عصر النهضة لم ينجز مهامه التاريخية المنوطة به، فإننا نرى أن إخفاق  مشروع النهضة العربية يعود إلى تضافر أسباب موضوعية  داخلية وعالمية أسهمت  في إجهاض  هذا المشروع.
ذلك كله يتطلب  فهما سليما لحاضرنا وهذا يتأسس على فهم سليم للمراحل التاريخية السابقة منها على الخصوص، مرحلة التأسيس النظري للمشروع الثقافي العربي الذي بدأ مع عصر النهضة،التي أتينا على ذكرها.
إن تلك الإشكاليات التي لازالت تؤرق الفكر العربي المعاصر ،نرى إنه يتعذر تناول هذه القضايا بروح علمية ،دون الانطلاق من التراكم الذي ولدته هذه التجربة .مما يجعلها لحظة ضرورية من أجل تكوين وعي نظري  لواقعنا وبناء تصور للمستقبل .
و هذه العودة  إلى عصر النهضة لا تعبر عن رغبة ذاتية ،بل تنطلق من تصور فكري يرى أن هذه التجربة لازالت مستمرة بأشكال مختلفة .
إن الفكر العربي الحديث و المعاصر ،منذ النهضة وحتى ا لآن يعد تجربة أصيلة بكل تجلياتها لقد أفرزت تلك التجربة مفكرين يعدون بكل المقاييس المؤسسين الحقيقيين لجدل الأنا والآخر ، من الأفغاني و محمد عبده إلى رواد التيار العلماني مثل فرح أنطون وشبلي شميل إلى ساطع الحصري إلى عبد الله العروي والجابري وأنور عبد الملك ومالك بن نبي .وهذه التجربة لازالت مستمرة،ولا زال  الكثير مما لم ينجز في مشروعنا الحضاري، يتطلب التأسيس النظري من أجل شحذ وعي معاصر ، وهذا الأخير لا يمكن امتلاكه إلا بتكوين وعي تاريخي حقيقي، الذي تحددت ملامحه الأولى مع الرواد الأوائل ، الذين وضعوا الأسس الأولى لمشروعنا النهضوي ،مما يجعلنا نرى أنه التراكم الأول علينا الانطلاق منه .  

الإصلاح الديني : جدل المقدس والمقتبـــس
        


قد يتبادر إلى الأذهان أن الإصلاح الديني والحداثة مصطلحان متقابلان يتعذر الجمع بينهما  إلا تعسفا، غير أننا نرى أن مثل هذه الاستنتاجات تنطوي على الكثير من التحليل الميكانيكي لعدم قدرتها على رؤية التمايز والتنوع داخل الفكر، تعكس درجة وعي حامله الاجتماعي، الذي يعكس أهدافه وتطلعاته و نظرته إلى العالم، ولا بأس من التذكير أن القراءة المتنوعة للنص الديني عرفتها مختلف الأديان بل لقد نشأ تيارا دينيا في التاريخ المعاصر داخل بلدان أمريكا اللاتينية عمل على صياغة ما سمى بلاهوت التحرر كان هدفه استنهاض  النص الديني ليلعب دورا إيجابيا في عملية التغير وبناء الذات على أسس أخرى جديدة.
إن قياس درجة تجديدية  هذه الحركة الدينية أو تلك يعود أساسا إلى مدى قدرتها على رفع التناقض بين النص وحركية المجتمع عبر عملية تأويله تستنطق فيها الماضي انطلاقا من الشرط التاريخي للحاضر.هذا الأخير يصبح موجها للنص الديني ،بهذا المعنى يصبح الإنسان والفعالية العقلانية أداة أساسية، وإذا جاز لنا القول إن الفرق بين القراءة النصية الوثوقية والقراءة التجديدية التحديثية، أو التنويرية: الأولى تفصل الواقع على قد النص، وشعارها في ذلك قياس الغائب على الشاهد يصبح العقل أسير ماضيها، أما القراءة الثانية تعمل على تفصيل النص على قد الواقع، فيصبح التاريخ الواقعي والموضوعي للبشر هو الموجه ويصبح عامل استلهام نشاط البشر وتطلعاتهم ( عبد اللطيف، ك.2001  )   
إن هذه القراءة التجديدية المستنيرة هي  التي كانت وراء الاجتهادات  التنويرية و التجديدية المقترحة من جمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده إلى علي عبد الرازق وغيرهم في الفكر العربي الحديث والمعاصر.
لقد برز الإصلاح الديني في  عصر النهضة العربية بوصفه تعبيرا  عن رؤية جديدة لمّا عجز الإسلام الرسمي عن التلاؤم  مع المهام الحضارية التي طرحتها صدمة الحداثة الأوروبية فكان الإصلاح الديني مدافعا عن هذه القيم التي تعد هي نفسها قيم الطبقة الصاعدة.(بالقزيز، ك. دون ذكر تاريخ النشر)   إن المهمة الأولى التي تصدى لها الإصلاح الديني هي إعلان التمايز بين الإسلام الرسمي المؤسساتي، وما يراه الإسلام الحقيقي فرأى أن انحطاط مجتمع الخلافة العثمانية، نتيجة الابتعاد عن الإسلام الحقيقي الأول. وعليه فإن العودة إلى روحه الأولى تعد ضمانة أساسية للتقدم. وإذا كانت العودة إلى الإسلام الأول تعد في آخر التحليل نزعة مثالية في فهم التاريخ، غير أن الإصلاح الديني لم يكن يهدف إلى إحياء خطاب قديم أو هروب إلى الوراء هروب العاجزين عن مواجهة ندية للواقع الحاضر كما يرى بعض الباحثين. ( حوارني ، أ.  1977 ) لقد سعت تلك القراءة إلى إيجاد حل جديد لعلاقتنا بتراثنا الروحـــي.
إن العودة إلى نقاوة الإسلام الأول في صيغته الأولى كانت بالأساس تمييز بينه وبين  ما آل إليه الإسلام على يد العثمانيين ،الذي حوّلته المؤسسة العثمانية إلى أيديولوجية تكرس مختلف مظاهر الاستبداد والاضطهاد القومي والجمود والفوضى والتجهيل والانحطاط الحضاري .وحتى يتماشى الإسلام أكثر مع مقتضيات الأيديولوجية الإقطاعية تمّ تضخيم بعض جوانبه وإضفاء الصفة المطلقة عليها وعدلت دلالتها لتنسجم مع المواقف المرتبطة بالمصالح القائمة ،مما حوّل الإسلام في النهاية إلى أيديولوجية مكرسة كليا في خدمة أصحاب الامتيازات تؤكد على الطاعة والامتثال والخنوع على أساس كونها واجب ديني. وما ينسب إلى أحد فقهاء الحكم العثماني قوله:أن الخلافة ضرورة إيمانية انتقلت شرعا من أبي بكر إلى العثمانيين ،و أن الخليفة ظل الله على الأرض ومنفذ أحكامه ،وأن واجب المسلمين أن يطيعوه وأن يكونوا من الشاكرين إذا أصاب ومن الصابرين إذا أخطأ ،وأن عليهم ،حتى إذا ما أمرهم بمخالفة شرائع الله ،أن يلجئوا ،قبل عصيان إلى النصيحة والدعاء واثقين بأن الله أقوى منهم على تغيره (عبد اللطيف،ك.1982   
لقد كان ذلك الفهم للإسلام لا يتفق مع أبسط مطالب العقل الإنساني ويفرض على الإنسان الاستسلام والخضوع  .لقد ظل هذا الفهم أحقابا طويلة الأساس الروحي والأيديولوجي للقوى المحافظة و في خدمة امتيازاتها ونفوذها السياسي .
إن هذا الإسلام المكرس بشكل شامل، يعيق بصورة متزايدة حركة التقدم التاريخي والحضاري، هو بالذات ما أرادت حركة الإصلاح الديني في عصر النهضة إبعاده لتتسنى العودة إلى فجر الإسلام الأول .
و في هذا السياق  لابد من الإشارة أن الإسلام الأول الذي عاد إليه الإصلاح الديني كان مرتبطا بتراث فكري وروحي و بكفاحات اجتماعية .لقد ندد الإسلام الأول بالتطرف واحتج على الظلم الاجتماعي والتفاوت في الثروة واتخذ جملة من التدابير الاقتصادية والسياسية التي ساعدت على تطور الاجتماعي والثقافي و تبنى موقفا إيجابيا من الحياة كما لبى تعطش الناس إلى العدل والمساواة وحقهم بالارتقاء .فكان بهذه التدابير الجديدة يحتل من الناحية التاريخية والاجتماعية والحضارية خطوة متقدمة إلى الأمام .لقد كان هذا التمييز من طرف رواد عصر النهضة ،أحد أهم أشكال مواجهة مهمات الحاضر والأخذ بأسباب التقدم في المجالات الاقتصادية والاجتماعية و الثقافية والحضارية .
إن ذلك التمايز داخل بنية الفكر الديني الذي أنجزه الإصلاح الديني في عصر النهضة أفقد المؤسسة الفقهية الرسمية داخل مجتمع الخلافة العثمانية أحقية تمثيل الإسلام ،
 بخاصة بعد تعديل كثير من مضامينه ودلالاته وتضخيمها لتنسجم مع المواقف النصية الوثوقية، فأصبحت تدعوا إلى الامتثال وتسلب الإنسان حريته وإرادته.
إن تلك المهام هي التي جعلت رواد الإصلاح كما يرى ألبرت حوراني أن يطرحوا سؤال كيف يمكن للمسلمين أن يصبحوا جزءا من العالم الحديث. ( حوراني، أ. نفس المرجع )  .
 إن المثقف النهضوي الواعي بأسباب تخلف العالم العربي والإسلامي و تقدم الغرب كان لا بد من العمل على تقليص هذه الفوارق .ولهذا لم يكن بوسع عصر النهضة العربية إلا التكيف مع الواقع الجديد .كل ذلك دفع رجال عصر النهضة إلى طرح صيغ جديدة لم تكن مألوفة من قبل، مما جعل خير الدين التونسي يؤكد على أمرين مهمين كشرط للتقدم:أحدهما إغراء ذوي الغيرة والحزم من رجال السياسة والعلم بالتماس ما يمكنهم من الوسائل الوصلة إلى أحسن حال الأمة الإسلامية و تنمية أسباب تمدنها بمثل توسيع دائرة العلوم والعرفان وتمهيد طرق الثروة من الزراعة و التجارة وترويج سائر الصناعات وأساس جميع ذلك حسن الإمارة المتولد منه الأمل المتولد منه إتقان العمل المشاهد في الممالك الأوروبية بالعيان وليس بعده بيان – ثانيهما – تحذير ذوي الغفلان من عوام المسلمين عن تامديهم في الإعراض عما يحمد من سيرة الغير الموافقة لشرعنا ،بمجرد ما انتقش في عقولهم من أن جميع ما عليه غير المسلم من السير و التراتيب،ينبغي أن تهجر و أن تآليفهم في ذلك ينبغي أن تنبذ و لا تذكر حتى أنهم يشددون الإنكار على من يستحسن سيئا منها.( التونسي،خ. 1978 ) .
إن المثقف النهضوي الذي شهد تماسا قويا و مباشرا مع الغرب من جهة ، وإدراكه لوضعه الداخلي المتخلف جعله يخوض المعركة على جبهتين داخلية و خارجية ،الأولى فهم أوروبا وتسويغها و تسويغ مؤسساتها المتقدمة ،و ثانيهما تثوير الوضع الداخلي ومجابهة  المؤسسات التقليدية و كل ما يرافقها من مظاهر التخلف .و لا يتم ذلك إلا من خلال تبني قوانين الغرب، لأنها تهدف ،كما رأينا عند خير الدين التونسي إلى حسن حال الأمة و تنمية أسباب تمدنها وتوسيع دائرة العلم .لهذه الأسباب أصبحت قوانين الغرب ومن خلال إيجاد مسوغاتها التراثية جزء من العملية الداخلية .
إن منح الآخر ،وهنا الغرب، مشروعية داخلية جرى بأشكال مختلفة، لكن أهمها هو عملية القراءة الجديدة للنص الديني أو التراثي بشكل عام،الذي يؤيد تقدم الغرب .إن المثقف النهضوي بحث عن الغرب من خلال تراثه هو ،و ليس من خارج التراث ويلخص خير الدين التونسي هذا لموقف بقوله  : إذا تركنا جانبا مسألة الاعتقاد و نظرنا إلى الأمور من الوجهة المادية الخالصة فإن التاريخ يشهدنا على أن التطبيق الصريح الأمين للشريعة الإسلامية لقد أدى دوما إلى نتائج باهرة لا ترجع إلى المصادفة أو إلى تأثير ظروف خاصة ،وإنما إلى الأثر الطبيعي لروح الشريعة ولاستعداداتها الفذة ..و لا شك أن التطبيق الأمين للشريعة الإسلامية سيعطي في أيامنا الثمار التي أعطاها فيما مضى من الزمان.( التونسي، خ. نفس المرجع  ).
هذه التساؤلات  التي طرحها عصر النهضة باعتباره عصر التفكير الجدي بمشكلات العرب والمسلمين ، حددت ملامح فلسفة للتاريخ العربي حاضرا ومستقبلا .إن الخلاف الكبير بين حاضر أوروبا وحاضر العرب ،جعل الرواد الأوائل مثل خير الدين التونسي و الطهطاوي يخضعون مضمون الشريعة لتتكيف مع المدنية الأوروبية .لقد ذهب الطهطاوي إلى حد اقتراح مبدأ يمكن اعتماده لتبرير ذلك حيث يرى أنه يجوز للمؤمن في ظروف معينة أن يقبل بتفسير للشريعة مستمد من مذهب شرعي غير مذهبه (رفاعة رافع ، ط.1971 ).إن الاجتهادات المذكورة تدلنا من جهة أخرى على المرونة في التعامل مع النص الديني ورفع التناقض بينه وبين القوانين الوضعية وقدرتها على استيعاب التمدن جعلت الطهطاوي يؤكد أن: من زاول علم أصول الفقه ما اشتمل عليه من الضوابط و القواعد جزم أن جميع الاستنتاجات العقلية التي وصلت  عقول أهالي باقي الأمم المتمدنة إليها و جعلوها أساسا لوضع قوانين تمدنهم وأحكامهم ، قل أن تخرج عن تلك الأصول التي بنيت  عليها الفروع الفقهية التي عليها مدار المعاملات مما يسمى عندهم بالحقوق الطبيعية أو القوانين النظرية وهي عبارة عن قواعد عقلية يؤسسون عليها أحكام المدينة ، وما نسميه العدل و الإحسان يعبرون عنه بالحرية و التسوية .  ( رفاعة رافع، ط. نفس المرجع) إن انفتاح الطهطاوي على الفكر الغربي أمّن له كثيرا من الحجج و البراهين التي سمحت له بالمضي في طريق التقنين العقلاني للشريعة الإسلامية على أسس جديدة  .بذلك تمكن الطهطاوي من إيجاد الصيغة الملائمة للتصالح مع الذات ومع الآخر.و هذه الصيغة تعد حالة انقطاع حقيقية عن السياق التاريخي للمجتمع الإسلامي الذي برهن على عجز الحكم العثماني أمام التحديات التي فرضتها عليه الأنماط الحضارية الوافدة .
ومع جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ،أخذت الإجابة أبعادا أوسع نستطيع القول أنهم تمكنوا من طرح قضية الجديد على نحو متقدم جدا في إطار مرحلتهم والأمر الذي يدعو إلى التفكير العميق أن الأفغاني في جميع مواقفه كان ذا أفق اجتماعي تنويري أفصح عنه بوضوح، فهو لم يبق في نطاق التأكيد على أهمية العقل وعلى عقلنة الدين معتمدا في ذلك على عنصري التأويل والاجتهاد العقليين  الذين أشار لهما الإسلام بصيغ متعددة،بل لقد تجاوزهما إلى الأصول( تيزيني، ط. 1978 )
إن التأويل مع جمال الدين الأفغاني تعداه من تأويل الشروحات إلى تناول النص الديني ذاته لقد كتب الأفغاني قائلا: " عم الجهل وتفشى الجمود في كثير من المرتدين برداء الإسلام حتى تحرصوا على القرآن بأنه يخاله الحقائق العلمية الثابتة، والقرآن بريء مما يقولون أثبت العلم كروية الأرض ودورانها وثبات الشمس دائرة على محورها، فهذه الحقيقة مع ما يشابهها من الحقائق العلمية لا بد من أن تتوافق مع القرآن- القرآن يجب أن يجل عن مخالفته للعلم خصوصا في الكليات، فإذا لم نرى في القرآن ما يوافق صريح العلم والكليات اكتفينا بما جاء به من الإشارة ورجعنا إلى التأويل إذ لا يمكن أن تأتي العلوم والمخترعات بالقرآن صريحة واضحة وهي في زمن التنزيل محجوبة من الخلق وكامنة في الخفاء لم تخرج لحيز الوجود ".( الأفغاني، ج. 1980 )
لقد أوردنا هذا النص على لسان الأفغاني لأنه يقدم المسألة على أحسن وجه، والجدير بالاهتمام العميق أن الأفغاني ،الذي وجد نفسه وجها لوجه أمام مشروع الحداثة ،ووجد   العلم  و العقل سر نجاح   الحداثة  ، منح لنفسه حق التأويل للنص ضمن منحى عقلاني متقدم كما أصبح داعية للعم على حساب النص.
لقد تم توظيف النص الديني في خدمة العلم والتقدم بالمعنى العام. وهذا ما جعلنا لا نولي أهمية ولا نقف عند رأي من  يقول أن الإصلاح الديني في عصر النهضة العربية عجز عن إدراك الشروط الحقيقية التي قام عليها التقدم الأوروبي، من بينها تحطيم المؤسسة الدينية. ( جعيط، هشام.2000)
إن هذا الرأي قد يجد من يخالفه، بل نرى فيه إجحافا كبيرا في حق رواد كرسوا جل حياتهم من أجل إيجاد الصيغة الملائمة المبدعة بين الأنا والآخر. ولا نستغرب إذا وجد من يتهم هذه الاستنتاجات بسيطرة المركزية الأوروبية والنظرة الإستشراقية تتركز أساسا في المماثلة بين المسيحية والإسلام. وهذا يعد أحد نقاط قوة الإصلاح الديني في تمييزه الحاد بينهما. إن الإسلام عكس المسيحية، لقد أسس عبر مشواره الطويل منظومة تشريعية وحقوقية (الشريعة) انطوى الكثير منها على قيم إنسانية عامة أهلته ليقدم نفسه كقوة اقتراح. إنها المسألة الأساسية التي جابهها الإصلاح الديني الذي عاش صدمة الحداثة ومشروعها العقلاني واطلاعهم على مسار أوروبا الحضاري، بخاصة اطلاعهم على حركة الإصلاح الديني على يد لوثر. لقد بدا لهم وبشيء من الاعتزاز والوفاء لتراثهم أن أوروبا ليست جديدة كل الجدة، مما جعلهم يرون في الإسلام، إذا أحسن فهمه، ينطوي على قيم مماثلة لقيم أوروبا الحديثة. وفي هذا السياق لا بأس من التذكير، أن الفئات الجديدة الصاعدة في أوربا دشنت صراعها ليس ضد الدين، بل ضد الإقطاع وضد أيديولوجيته الكنسية التي أصبحت أداة موضوعة في خدمة أصحاب الامتيازات الإقطاعية. لهذا قامت بحركة إصلاح ديني، ليس من أجل إلغاء الدين، بل من أجل سحب مشروعية تمثيل الدين من قبل الإقطاع وبالتالي تعديل دلالاته ومضامينه ليتوافق مع الأهداف الجديدة والتطلعات الجديدة القائمة أساسا على تأكيد قيم التنوير
إن هذه المسألة هي التي شغلت رواد الإصلاح الديني إلى حد جعلت جمال الدين الأفغاني يرى أن الإسلام في حاجة إلى قيام لوثر جديد فيه، ما جعل ألبرت حوراني يرى أن الأفغاني كان يرى في نفسه لوثر المسلمين.( حوراني ، أ. مرجع سابق)      
إن  الفهم  الصحيح لفكر الإصلاح الديني في عصر النهضة العربية يجب وضعه في سياقه التاريخي حتى يتسنى لنا الحكم عليه بشكل صحيح. ولن يتحقق لنا ذلك إلا بمقارنته مع المرحلة السابقة عليه،مرحلة الإقطاع العثماني وما سببه من تأخر تاريخي وحضاري.لقد تحول الإسلام  على يد العثمانيين إلى جملة من المأثورات التقليدية المرهقة متجاوزة تاريخيا فاقدة القدرة على أي تجديد اجتماعي وثقافي وحضاري.مما جعل رواد الإصلاح الديني يعيدون صياغته على أسس جديدة  مناقضة تماما للتصور العثماني ،لقد تحول إلى مشروع للنهضة الحضارية من خلال تبريره للعلم والمدنية. بل لقد رفع من شأن العلم إلى درجة عده المخلص الذي لا غنى عنه في سبيل تقدم العرب وفي سبيل التقدم التاريخي بشكل عام. (برقاوي ، أ.88 )
تأسيسا على ذلك تحول الإسلام من دين إلى دعوة للازدهار الحضاري والثقافي استلزم ذلك قراءة متحررة للإسلام والعودة مباشرة للنص الذي هو حمال أوجه فكان البحث فيه عن العلم والعدل والعقل والحرية، مما جعل الأفغاني يرى أن الغاية من أعمال الإنسان ليست خدمة الله فحسب، بل خلق مدنية مزدهرة في جميع نواحيها.( حوراني ، أ. مرجع سابق )    
إن هذا التأويل الجديد جعل الأفغاني يوافق المستشرق الفرنسي رينان على أن الأديان، وإن كانت ضرورية لتحرر الإنسان من البربرية، قد تجنح به إلى عدم التسامح، وعدم التسامح يتكون عندما يصبح الدين في خدمة الأسياد.  ( حوراني ، أ.  مرجع سابق) إننا نرى أن هذا الفهم الذي تخلص من الكثير من التراكمات التاريخية والعودة إلى النص مباشرة ما كانت تتوفر لولا اطلاع رواد النهضة العربية على فكر الحداثة الغربية وعقلانيتها الصارمة،ويتوافق أيضا مع فهم القرن الثامن عشر والتاسع عشر في فهم الدين. (  العروي ، ع.  كون ذكر تاريخ الطبع)
لقد عكست هذه الاجتهادات العقلانية والتنويرية للنص الديني طموح رواد الإصلاح الديني في التعبير عن تطلعات روح العصر التي تعكس تطلعات أمة العرب لاكتساب منجزات العصر. كما أسهمت تلك القراءات التجديدية للإسلام وللتراث العربي عموما، أسهمت بصورة أساسية وإيجابية في إحداث نقلة تسمح لنا بالقول أنها كانت نوعية في مناخ الفكر العربي. وبخاصة أن واقع التأخر التاريخي في صورته الاستبدادية المعقدة الأشكال، يسمح بصياغة فكر يجعل الدعوة إلى الحرية وسيادة التقدم مهمة من مهامه الملحة. لقد كانت هذه الدعوة قاسما مشتركا بين جميع رواد عصر النهضة العربية على اختلاف مشاربهم الفكرية.
وهذا الأمر ينسحب على تلميذ الأفغاني محمد عبده فيما يتعلق بدعوته التجديدية. لقد أحاط هذا المصلح الديني العقل بجل اهتماماته. ولعلى تجربة محمد عبده الفكرية تظل، في تقديرنا، تجربة غنية وعميقة إنه ولا شك نموذج للمصلح الديني المستنير في منتصف القرن التاسع عشر. ولا نبالغ في القول أن محمد عبده سعى إلى إعادة صياغة بنية النص الديني من خلال العودة إلى روح الإسلام في اجتهاداته ففي كتابه"رسالة التوحيد" الذي نرى أنه رسالة الإسلام الجديدة، يعطي مضامين جديدة للإسلام تعتمد أساسا على عقلانية غير معهودة ولا مألوفة في تراث الإسلام. وفي رسالة التوحيد دشن تلك النظرة التجديدية. ولا بأس من الاستشهاد بنص قد يبدو طويل لكنه يلخص، إن صح التعبير، المشروع الحضاري للأستاذ الإمام. فيعلن وبصوت عال أن " الإسلام شجب التقليد الأعمى فيما يتعلق بالعقيدة، كما شجب التطبيق الآلي للواجبات الدينية، وقد نبه الإسلام الفكر من غفوته ورفع الصوت ضد الجمود والجهل، فأعلن أن الإنسان لم يخلق كي يقاد من عنانه، وإنما من طبيعته الخاصة وراء العلم والمعرفة وراء علم الكون ومعرفة الوقائع والأحداث الماضية ".( عبده ، م. 1985  )   .
كما يوضح وبصورة قاطعة تخطيه للكثير من الموروث الذي لم يعد قادرا على الاستجابة لمهام الحاضر فيؤكد :أن الإسلام يحولنا عن التعلق بالأشياء الموروثة عن آبائنا ويبين لنا أن كونهم قد سبقونا في الوجود لا يعني دليلا على معرفتهم أو على تفوقهم في التفكير والإدراك، وأن السلف والخلف هما متساويان في الإدراك وإمكانية النقد والطاقات الطبيعية.( عبده، م. نفس المرجع) .
لم يتوقف محمد عبده عند رفض الامتثال للتراث وللموروث الديني بشكل خاص، بل لقد دفع بمقدماته إلى نتائجها القصوى عندما ضيق من دائرة الإيمان  وجعلها تتوقف عند حدود الإيمان بالله فقط ليفسح المجال للعقل فيؤكد أن الإسلام "حرر العقل من سلاسله ومن التقليد الأعمى الذي استبعده في الماضي وأعاده إلى مكانه حيث يقرر وفقا لأحكامه وحكمته ...  إلا أنه من واجب العقل أن يتواضع أمام الله وأن يتوقف عند حدود الإيمان. أما ضمن هذه الحدود فليس هنالك أي حاجز يعترضه ويعرقل نشاطه، أو أي شيء يحد من نظرياته التي يمكن أن تصدر وفقا لهذه الأحكام). ( عبده، م. 1983
إن هذا التأصيل النظري الذي قام به الأستاذ الإمام دفع به إلى الأمام خطوة أخرى أكثر تقدما، لما اجتهد أصولا جديدة للدين مثلت ذروة الاستنارة العقلية وهي (النظر العقلي بتحصيل الإيمان، وتقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض، والبعد عن التكفير الاعتبار بسنن الله في الخلق وأخيرا قلب السلطة الدينية).(عبده، م. نفس المرجع)    
إن هذه الاجتهادات التي قام بها محمد عبده كان يتعذر عليه استنطاقها من النص لو لم يعتمد على روح العصر وعلى منجزات الحداثة   الغربية. لقد كان تأثير الغرب والفكر الغربي واضحا على نشأة خطاب النهضة العربية. لكن لا يقود  ذلك إلى استنتاج أن خطاب النهضة كان امتثالي أو متماهي مع خطاب الحداثة الغربية. لقد ظل خطاب الإصلاح الديني، رغم استلهامه الشديد من الغرب المتقدم، ظل شديد التمسك بتراثه، بل لقد كان يشكل له جزءا أساسيا من هويته وانتمائه. وفي كثير من الأحيان كان المرجعية التي تحدد له ما يأخذه من هذا الغرب المتقدم وما يجب تركه. بالرغم من كونه قد أخذ الكثير والكثير من هذا الغرب.
إن محاولة استلهام أوروبا المتقدمة جعلتهم يبحثون عن فكرها داخل التراث العربي. لهذا ينطلق محمد عبده من الإقرار بأنه (ليس في الإسلام ما يسمى عند قوم من السلطة الدينية بوجه من الوجوه(  عبده ، م. نفس المرجع).
إن إنكار السلطة الدينية يعني بالأساس إنكارا للتوسط بين العبد وربه وإضفاء طابعا مدنيا على السلطة، ولهذا يؤكد على أن الإسلام (لم يدع لأحد بعد الله والرسول سلطانا على عقيدة أحد ولا سيطرة على إيمانه .( عبده، م .نفس المرجع)

وإذا كان محمد عبده يرفض السلطة الدينية في الإسلام فإن ذلك لا يقوده إلى فصل السلطات كما هي في المجتمع الغربي. بل يصل في نهاية الأمر إلى الإقرار بأن "الإسلام دين وشرع فقد وضح حدودا ورسم حقوقا ولا تكتمل الحكمة من تشريع الحكام إلا إذا وجدت قوة لإقامة الحدود وتنفيذ حكم القاضي بالحق وصون نظام الجماعة وتلك القوى لا يجوز أن تكون فوضى في عدد كبير فلا بد أن تكون في واحد وهو السلطان أو الخليفة".( عبده ، م . مرجع سابق). لكن السلطان أو الحليفة ليس ممثلا لله في الأرض "وليس معصوما ولا هو مهبط الوحي ولا من حقه الاستئثار بتفسير الكتاب والسنة وأهم شرط فيه أن يكون مجتهدا والمسلمون له بالمرصاد فإذا انحرف عن النهج وجب عليهم أن يستبدلوا به غيره ،فالأمة هي صاحبة الحق في السيطرة عليه وهي التي تخلعه متى رأت ذلك في مصلحتها فهو حاكم مدني من جميع الوجوه ولا يجوز لصحيح النظر أن يخلط عند المسلمين بما يسميه الإفرنج تيوكرات( عبده ، م. نفس المرجع)
مما لا شك فيه أن الشريعة عند محمد عبده هي القوانين الحقوقية والأخلاقية التي يجب أن تسير عليها الأمة، لكن الأمة هي مصدر السلطة قبل كل شيء. وإذا كنا هنا بين دمج السلطة الدينية والمدنية فمصدر تلك السلطة هي الأمة أو من ينوب عنها. إن هذا التحليل يتبنى نظام الشورى في التصدي لمشاكل المجتمع وليس سلطة أخرى.
إن المتتبع لاجتهادات محمد عبده الستة التي أتينا على ذكرها تسمح لنا بالقول، وإن كانت لها مرتكزات دينية، فإنها تنطوي على جانب كبير من التنويرية والاستجابة لروح العصر. إن لم نقل أنها تنطوي على جانب كبير من العلمانية، من خلال اعتبار الأمة هي منبع السلطة والسيادة.
إن محمد عبده لم يقيد الحكم بالنصوص الدينية المجردة، بل اعتمد في حكم الأمة على الأمة نفسها.
من هنا، من هذا الموقف العقلي النقدي، انطلق محمد عبده في دعوته إلى إحياء التراث العربي والإنساني دون أن يجد حرجا في تبني منجزات الحضارة الأوروبية.   ( تيزيني ، ط.   مرجع سابق )
لقد أراد عبده من وراء ذلك أن يحل إشكالية العلاقة بين الأصالة والمعاصرة والعودة إلى الأصول الأولى تشكل بالنسبة إليه الشرط الأول لتحقيق الأصالة وهذه الأخيرة تكتسب أبعادها ومقوماتها العصرية من خلال مزاوجتها بأوروبا ومنجزاتها العلمية والحضارية.
   إن إشكالية  المقدس  و المقتبس في  خطاب الإصلاح الديني  في عصر النهضة  العربية قد أثار جدلا واسعا في أوساط النخبة العربية بين مشكك ومتهم في طبيعة هذا التأثير، وإذا كنا لا نريد الوقوف عند هذا الجدل، فلا بد من إثارة نقطة نراها على غاية من الأهمية النظرية والمنهجية.
إن الفكر العربي ليس استثناء في هذه المسألة. إن ظاهرة التثاقف تدخل في صميم جدل الحضارات فلا يوجد شعب صاغ ثقافته بمعزل عن تأثير ثقافة عالمية إنسانية. إن الفلسفة اليونانية لم تتم صياغتها بمعزل عن تأثير التأملات الشرقية القديمة،كما أن الفلسفة الإسلامية الوسيطية استعارت الكثير من الفكر اليوناني.(مرة ، ح. 1978 ) كما استعارات القوى الصاعدة في أوروبا آداب الإغريق وفلسفة العرب لمجابهة التسلط الكنسي. لقد أصبح ابن رشد أو ما سمي بالرشدية اللاتينية أداة تنويرية بيد الطبقة الصاعدة لتبديد ظلام الكنيسة .بهذا المعنى إن تاريخ الإنسانية يقوم على التواصل.
 لقد تضافرت جهود البشر  من أجل تشييد التاريخ العالمي. وهذا التاريخ العالمي الإنساني كان له تأثير كبير على فكر النهضة العربية،وعلى بنيته الفكرية. فالإصلاح الديني في عصر النهضة العربية لم يكن ثمرة تطور بنية الفكر الديني في الإسلام. إن فهم هذه الظاهرة لا تتم إلا في إطار هذا الجدل الحضاري الذي أتينا على ذكر بعضه في الصفحات السابقة.
إن المصلح الديني دشن اجتهاداته الدينية،ليس فقط من إحساسه الداخلي بانحطاط الإمبراطورية العثمانية ، بل من خلال مقارنة هذا الانحطاط بما وصلت إليه من تقدم أجزاء من الإنسانية.
لقد تصدى المصلح الديني لهذه الإشكالية الحضارية وهو متسلحا بنظرة تاريخية، نظرة تقيم توافقا بين الوافد والموروث، بين قراءة معينة للإسلام، وفهم خاص للغرب. وبعبارة أخرى أراد المصلح الديني أن يمنح جزءا كبيرا من هذا الوافد مشروعية داخلية لتسهم في تطوره الحضاري. وهذه المشروعية الداخلية تتحقق من خلال، الانطلاق من روح الإسلام إذا فهم فهما صحيحا. أي إذا تم تعديل كثيرا من مضامينه لتلتقي مع الوافد الجدي.
وتأسيسا على ذلك فإنه من المتعذر القبول رأي من يقول أن الإصلاح الديني لم يدفع بمقدماته إلى مداها الأخير بحيث تتناول مسألة الإيمان ذاتها.( جعيط ، ه. 2000) إن مثل هذا الرأي يريد من الإصلاح الديني أن يتخلى عن كونه إصلاحا دينيا، الذي له حدوده الفكرية تحدد له إطار تحركه.
كما يمكننا القول أن الإصلاح الديني في عصر النهضة قد انطوى على مرونة  وتسامح تجاه الأيديولوجيات الأخرى، ولا يعود ذلك إلى المناخ السائد، بل إن أغلب رجال الإصلاح الديني لم يتطرفوا في طرح آرائهم ومعتقداتهم.
لهذا كله يتعذر قبول رأي عبد الله العروي الذي يرى أن الإصلاح الديني هو استمرار التعارض بين الشرق والغرب في إطار التعارض بين الإسلام والمسيحية.  العروي، ع. 1982). كما أن محمد عبده في رده على فرح أنطون لم يكن ردا طائفيا من خلال تأكيد الحاضر الإسلامي والحاضر المسيحي كما يرى الجابري( الجابري ، م، ع  1982  ) لم تكن غاية الأستاذ الإمام إلا التمسك بروح العصر من خلال التأكيد أن الإسلام لا يتعارض مع الحداثة الغربية وهذا يعني أن المصلح الديني لم تشغله مسألة إقامة التعارض بين الشرق المسلم والغرب المسيحي. لقد نظر إلى هذه المسألة في إطار جدلية حضارية متقدمة من خلال محاولة إكساب الخارج مشروعية داخلية.
إنه موقف لا تاريخي وغير علمي أن نطلب من الإصلاح أكثر مما قدم، بل لقد قدم الكثير في تلك المرحلة لدرجة أن الكثير من رجال الإصلاح الرافضين للاستبداد تعرضوا للاضطهاد والتشريد والنفي. ما جعل الصحف العربية بعد موت الأستاذ الإمام محمد عبده تنعاه قائلة، مات مطعونا بأسنة المقاومة الرجعية، موت شهيد في سبيل الإصلاح والخير. يوسف ، ح.  1978 )