vendredi 27 mai 2011

دفاعا عن جمعية العلماء الأصيلة

ليست المرة الأولى التي يقصف فيها رئيس جمعية العلماء نشاط المكتبة الوطنية· وفي كل مرة تتزايد كمية القصف والتركيز على المكتبة الوطنية دون سواها، من خلال بيانات تحمل في جوهرها مضمون فتاوى· أما البيان الأخير أو الفتوى الأخيرة حول محاضرة أدونيس، فلا يترك مجالا لشك أو تأويل، فهو ينطوي على تكفير صريح·
من حق رواد المكتبة الوطنية أن يتساءلوا، وأنا واحد منهم، لمَ هذه الانتقائية في القصف·· وما هي غايته؟· لقد فتحت المكتبة الوطنية أبوابها للجميع، وبشهادة الجميع·· ونظّمت ندوات للجميع دونما استثناء ولا إقصاء· فتحت أبوابها للاجتهاد، بحضور رموز دينية·· كما نظّمت ندوات مختلفة حول رموز دينية، من بينها ندوة حول الشيخ ''بيوض'' (رحمه الله)، وندوة حول الشيخ عبد اللطيف سلطاني (رحمه الله) الذي تنكر له مريدوه قبل أصدقائه·· وغيرها من الندوات··· لهذا يتعذّر كثيرا فهم واستيعاب تهجم رئيس الجمعية على أحد رموز الثقافة العربية المعاصرة وأحد الشعراء الكبار وأحد منظّري الفكر العربي المعاصر، وأحد مرشحي العرب لجائزة نوبل·
لقد كان أوْلى··· وأجدى للجمعية ورئيسها، أن تجسّد -على الأقل- بعض ما حلُم به الشيخ الجليل عبد الحميد بن باديس·· أن تنافح عن اللغة العربية التي تتعرض للانتهاك وللمسخ باستمرار··· بدل التهجم على أحد رموزها· أم أصبحت الجمعية تعُدّ اللغة العربية -كما يعُدّها التيار الفرانكوفوني- لغةَ البعثيين لا يجوز الدفاعُ عنها·
كنا ننتظر من رئيس الجمعية، أن يبديَ رأيه في القضايا الفكرية الكبيرة··· والصراعات المصيرية الحاسمة··· والأخطار الهائلة التي تهدّد العرب والمسلمين··· ليس محاكمة النوايا وتوزيع التهم والتشكيك في إيمان البشر، هذه من مخلفات القرون الوسطى ومحاكم التفتيش·
الخطرَ كل الخطر، أن تتحول الجمعية إلى محكمة تفتيش، تحاكم النوايا وتوزع صكوك الغفران· فما نُشر حول محاضرة أدونيس وما قيل عن بعض الصحف الوطنية، ينمّ عن خطر داهم، يذكّرنا بإرهاصات تلك المرحلة المشئومة، التي بدأت بالتهم والتشكيك والتحريض··· وانتهت لاحقا إلى مواقف ملموسة راح ضحيتها عشرات الآلاف من الجزائريين والجزائريات· ويبدو أن الكثير لم يتعظ، ولم يعتبر·
وما يبعث على التعجب أن رئيس الجمعية، أصدر البيان-الفتوى، في شيء لم يكن شاهدا ولا حاضرا فيه· هذا لا يليق بمكانة جمعية العلماء، بل يُعدّ إساءة لتراثها، ومؤسسها باعث النهضة الجزائرية الحديثة الشيخ عبد الحميد بن باديس، رمز التسامح والمحبة···
يبدو أن الجمعية -قبل غيرها- هي في أشد الحاجة إلى سماحة وتسامح الشيخ المؤسس ابن باديس، وفي حاجة ماسة لإعادة قراءة تراثه، للوقوف عند تلك المواقف النبيلة والعظيمة والمشرقة···
وما صدر عن وريث الشيخ ورئيس الجمعية، التي أسسها الشيخ، من تكفير في حق ضيف عابر لم يستمع إلى كلامه، ولم يكن حاضرا·· أفتى وكفّر، لمجرد أن أحدهم أبلغه· فهذا لا يمتّ بأي صلة بتراث جمعية العلماء، ولا بروح الشيخ المؤسس· هذا شيء آخر، هذا تراث آخر·· لا نعرف طبيعة الرياح التي جلبته·
إن تراث الشيخ الجليل عبد الحميد بن باديس ومواقفه الدينية المتسامحة ورؤيته الوطنية والعالمية العالية، جعلت منه رمزا دينيا ووطنيا كبيرا·
لقد تعامل الشيخ الجليل بمحبة عالية، وصدر مفتوح، وتسامح واسع، مع جميع أبناء الحركة الوطنية الجزائرية، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار·· من الاندماجيين إلى الشيوعيين، اختلف معهم·· جادلهم·· اعترض على الكثير من مواقفهم الفكرية والسياسية··· لكن لم يخطر على بال الشيخ الجليل أن يشكّك في إيمان أحد منهم، ولم يخطر على باله أن يكفّر أحدهم·· لأنه ينتمي إلى طراز من الرجال ذوي الأفق الواسع· كما كان ينتمي إلى عصره·· فلقد كان صارما وحازما ضد إسلام الدجالين والدراويش في الجزائر·· وضد فقهاء السلاطين العثمانيين، الذين جعلوا الإسلام أداة موضوعة في خدمة الإقطاع والنبالات العسكرية· لهذا ساند -بحزم ووضوح- حركة كمال أتاتورك العلمانية، لأن الشيخ الجليل كان ابن عصره وابن عصر النهضة العربية ووريث تراثها التنويري، من الأفغاني ومحمد عبده إلى علي عبد الرازق·
هذا هو الشيخ وتراث الشيخ·· الذي أساء إليه البيان-الفتوى، إساءة بالغة·· بيان عبّر عن ضيق أفق وضيق صدر·· وتنصُّل واضح عن مرجعية جمعية العلماء الأصيلة·
نعم، إن انقطاع صلتنا بتراث جمعية العلماء ومرجعية جمعية العلماء، كان من ضمن الأسباب التي زجّت بالجزائر إلى إسلام متطرف عنيف، قادم من كل حدب وصوب·· وأخطرهم على الإطلاق ليس الإسلام الوهابي·· هذا تعبير غير دقيق، بل الأصح هو إسلام البترودولار، الذي ساهم في إغراق الجزائر في بحر من الدماء·
لقد تفاءلنا خيرا بتأسيس جمعية العلماء المسلمين، ظانين أنها ستكون سدّا منيعا ضد إسلام البترودولار والإسلام المتأفغن، وضد فقهاء السلطان، وإسلام الدجّالين الجدد·· وضد إسلام مرضعة الكبير، والتبرك ببول الرسول، وتحريم أكل الزلابية والاحتفال بالأعياد الوطنية·
تفاءلنا خيرا بتأسيس جمعية العلماء، ظانين أنها سوف تسير على الدرب الذي خطه الشيخ المؤسس، فتأخذ بيد الجزائريين والجزائريات نحو إسلام متسامح تنويري عقلاني، منفتح على العصر وقضاياه الشائكة·
لكن البيان-الفتوى، من جمعية العلماء، ومن رئيسها، خيّب الآمال وأصاب الكثير بالإحباط· لقد كشف البيان-الفتوى، أننا نبعد كثيرا عن جمعية العلماء المسلمين الأصيلة· بل إننا أمام جمعية أخرى ومرجعية أخرى، بعيدةٍ كل البعد عن تراث الشيخ وعَبَقِ الجامع الأخضر·

حتى لا نظل كائنات تراثية :حوار مع الشاعر عمر أزراج

لأستاذ عمر أزراج الذي يطل علينا أسبوعيا من شرفته الجميلة، بإسهاماته المتنوعة. أطل هذا الأسبوع بإسهام فكري جميل وبلغة لا تقل جمالا.
هذا ليس بجديد على شاعر مجدد، ومثقف متميز، أغنى الساحة الجزائرية والعربية بإبداعاته الشعرية وإسهاماته الفكرية المتميزة. متخطيا الدوائر الضيقة الخانقة القاتلة ، نحو فضاءات حضارية أكثـر رحابة واتساعا.
هل لنا سلطة على التراث؟ بهذا العنوان الموحي يكون الأستاذ أزراج قد وضع يده على إحدى معضلات العرب والفكر العربي وهي محنة التراث، الذي لا يزال محل تلاعب سياسي خطير، قد يعصف بنا دولا ومجتمعات إذا لم نجد حلا تاريخيا حقيقيا. وهذه الإشكالية ليست جديدة أو طارئة، لقد عرفت عدة محطات مفصلية في حياة العرب، منذ صدمة الحداثة في منتصف القرن التاسع عشر إلى غاية هزيمة .67 لكن في كل مرة يتعرض العرب وفكرهم لمكر التاريخ. وستظل مهمة تخطي التراث على رأس جدول أعمال الفكر العربي طالما لم ينجز مشروع الحداثة.
إن إسهام الأستاذ أزراج، الذي يصب في هذا الجهد الفكري، لامس الكثير من المسائل لا تزال مثار جدل وخاصة تأكيده على تاريخية التراث، وتجلياته المختلفة السياسية والاجتماعية والثقافية. مما يتطلب ،كما يقول وبحق، التصدي لهذه الإشكالية بالنقد والتمحيص، حتى نتجنب الكثير من المشكلات التي قد تجابهنا. لكن هذه المهمة محفوفة بمخاطر كبيرة، نظرية ومنهجية، تجابه المهتمين بهذا الحقل المعرفي.
 هذه الإشكالات الفكرية جعلته يثير جملة من التساؤلات، بدا لي أنها أوقعته في مأزق نظري ومنهجي أربك المقال،وأثر على تماسكه .لقد راهن على مقدمة، عدّها مُسلّمة ، لكن إذا انهارت تجر وراءها جميع استنتاجاته. يؤسس رؤيته على اعتبار التراث جزءا تكوينيا لبنية وعينا ولا وعيينا، تاليا هذا التماهي بين الأنا وموضوعها يحرمنا من إخراجه ووضعه على طاولة التشريح النقدي. بل يذهب أبعد من ذلك لما يعده جزءا مكونا لشخصيتنا القاعدية، ليخلص إلى نتيجة في حقيقة الأمر متضمنة في المقدمة. يرى أن سلطة التراث وقيمه هي التي تحركنا بقوة .بل يجعل منا مجرد أدوات في يد التراث، لما يعد تناقضات الماضي، هي التي تحرك حاضرنا وتهدد مستقبلنا. يفصح عنه حال الأمة، المشتت بين ثنائيات لا جامع لها، إلا الولاء لقرابة الدم والنسب، وليس المواطنة والوطن. هذا الوضع يدلل ،كما يقول، على قوة التراث وسلطته الحاسمة على جميع مناحي حياتنا المعاصرة، بل أصبح خطابا مؤسساتيا يشكل مقاومة نكوصية سلبية ضد التقدم والحداثة ولتنوير.
إن النتيجة التي خلص إليها الأستاذ أزراج، تلتقي مع المدرسة الاستشراقية التي تتحدث عن الطبيعة الثابتة، فهو أيضا يحوّلنا، شاء أم أبى، من كائنات لها تراث، إلى كائنات تراثية، محكوما عليها أبد الدهر أن تظل بين الحفر، لا تتنفس، ولا تستنشق إلا غبار الزمن المتراكم.
وهذا يعود في تقديري إلى أن معالجته لموضوع التراث الذي يشتمل على جوانب مختلفة متداخلة، مثل التاريخ، والثقافة، والأيديولوجيا، فضل أن يتناوله من جانب واحد ، نفسي سيكولوجي، يوحي أن علاقتنا بتراثنا تكاد تكون مرضية. لهذا سيطرت على المقال لغة علم النفس وحدها دون غيرها، مثل حديثه عن الوعي واللاوعي والشخصية القاعدية وغيرها من مفردات علم النفس الذي انفتح عليه الأستاذ أزراج وكتب فيه أثناء تواجده ببريطانيا. انفتح عليه بشهية كبيرة، وعلى جميع مدارسه وتياراته المختلفة، من فرويد إلى جاك لاكان، مما ترك أثـره عليه فحرمه من رؤية التراث في شموليته وتعقيداته وملابساته المختلفة.
إن التمسح بالتراث واللجوء إلى الماضي واستحضار الموتى، لا يكون إلا عندما يفقد الأحياء الأمل في الحياة، ويفلت الحاضر، وتنسد آفاق المستقبل. بهذا المعنى فالحاضر هو الذي يحدد الموقف من الماضي.
إن جميع الدلائل تؤكد أننا أمام حاضر، انقلبت فيه المعادلة. فلم يعد الإنسان هدف وغاية الإنتاج، إنما تحوّل الإنسان إلى وسيلة للإنتاج، فتشيأ وتعلّب وتسلّع واستلب ولم يعد القيمة المطلقة في الوجود. وما نتج عن ذلك من مظاهر البؤس والفقر والغبن والحرمان. يقابله نمط حياة الاستهلاك والبذخ والترف والبطر والانهيار الأخلاقي والعقم الثقافي والاستهتار بكل القيم الإنسانية النبيلة. أمام هذا العالم الجائر الظالم المرعب المتوحش تحميه، جبروت دولة مستبدة، ظالمة، طاغية، لم تجد الجماهير أمامها إلا الدين والتقاليد ودفء القبيلة، ملاذا، وهروبا من عالم تغوّل، انتصرت فيه شريعة الغابة، على شريعة الله.
تأسيسا على ما تقدم يتبن لنا أن الجهد السياسي يحتل الصدارة في معركة التراث، دون التقليل من الجانب المعرفي. بعبارة أكثـر وضوحا، إن تخطي التراث معركة سياسية، لأن أصحاب المصلحة الحقيقية في التقدم والتنوير والحداثة، جماهير لا تزال ملوثة بالماضي وأوهامه. هنا تجابهنا مهمة الارتقاء بها من كائنات تراثية إلى كائنات عصرية. في هذه الحالة نكون في حاجة إلى جهاز سياسي عصري، ومشروع حضاري، الأول يشحذ الوعي بأيديولوجيا عصرية، والثاني يفتح الآفاق، ويسد منافذ الاستلاب والوعي الزائف.
كلام مغشوش في مرحلة مغشوشة
يبدو أن الحديث لا يريد أن ينقطع بشأن  الكاتب الفرنسي ألبير كامو. بعدما استمعنا إلى دروس من جزائريين حول الكاتب، يأتي اليوم دور الفرنسيين، لا أعلم إن كان تقسيما للأدوار، وتوزيعا للمهام، أم شعورا بالإحراج بعد الضجة الإعلامية التي أحدثها بيان  المعارضين لهذه المناسبة. 
يبدو أن مهمة الدفاع عن كامو تكفل بها الكاتب ستيفان بابيه، ليكون ناطقا باسمها   وشارحا لمقاصدها وقد تكفل بصياغة بيان    نُشر على أوسع نطاق في فرنسا، يحمل عنوان  ''كامو عشق جزائري''. وهو دفاع عن وجهة نظر كامو في المسألة الجزائرية.
وبصرف النظر عن لهجته الاستعلائية التي بلغت حد التقعر، فإن مرافعته عن كامو، من بابها إلى محرابها، مغالطات وتزوير لحقائق ثابتة تاريخيا. لقد بلغ به التبجح الذي ينم عن سطحية في التفكير أن اتهم الجميع وعلى رأسهم الفيلسوف الكبير جان بول سارتر، صاحب المواقف المشرفة تجاه الجزائر والثورة الجزائرية، الذي كان يجمع التوقيعات ويوجه العرائض، ويقود المظاهرات ضد الاحتلال الفرنسي للجزائر مطالبا بحق تقرير مصير الشعب الجزائري، توّجها بكتاب ''عارنا في الجزائر''، ظل شاهدا على موافق سارتر العظيمة.  ويقول باببيه، في صيغة تهكمية، إن سارتر كان يدافع شفويا عن النضال الجزائري  من شوارع ومقاهي باريس. أنا أتساءل: من أين يناضل إذا لم يكن من باريس وشوارعها؟ وبأي وسيلة أخرى ،إذا لم تكن الكلمة؟ هل كان  مطلوبا من سارتر أن يحمل السلاح ويلتحق بجبال الأوراس ويصبح مجاهدا في جيش التحرير؟
إن ستيفان باببيه، إما جاهل، أو لا يحترم عقول من يخاطبهم، لأن صاحب الوجود والعدم،  الذي كان يجوب أزقة و شوارع باريس، يتصدر المظاهرات بصحبة رفيقة دربه سيمون دي بوفوار، كان في حقيقة الأمر منسجما مع مذهبه الفلسفي الوجودي، أي  يعكس موقفا  فلسفيا أصيلا، نابعا من أصالة فلسفته الوجودية التي ترى أن جوهر الوجود الحرية التي تؤكد نفسها في مقابل ما عداها.
إن هذا الموقف الوجودي الأصيل تنكر له كامو، الكاتب الوجودي، في أول امتحان له لما طرح عليه التاريخ السؤال عن حرية الشعب  الجزائري، بل سار عكس سارتر، وعكس الفلسفة الوجودية برمتها، لما جعل الفكر الوجودي يقف على رأسه بدل رجليه. فهو لم يختلف مع سارتر حول حرية الشعب الجزائري، إنما أنكر الكينونة الجزائرية. هنا تتجلى النزعة الاستعمارية والروح العنصرية.  
لقد أنكر بشكل صريح وجود أمة جزائرية، فهي أمة في طور التكوين. لهذا يحق لمواطنيها، وليس لأهلها الأصليين، من هنا نفهم دفاعه عن مفردة المواطنة، من حق هؤلاء المواطنين،  الوافدين الجدد، الطارئين على تاريخ الجزائر: الفرنسيين والإسبانيين واليهود واليونانيين والمالطيين والإيطاليين والبرتغاليين وبقايا القراصنة العثمانيين والجيش الانكشاري  وعابري السبيل والمؤلفة قلوبهم، جميعهم لهم الحق أن يزعموا لأنفسهم أن يكونوا جزءا أصيلا للأمة المراد تحقيقها، لا تقتصر على  العرب والبربر وحدهم الذين غيبهم في أدبه، ولم يتعامل معهم إلا بوصفهم أدوات سلبية، باهتة، عاجزة، قاصرة،  لاهثة، مقطوعي الصلة بالزمان والمكان، تجمعهم هوية متخلفة عاجزة جامدة، منغلقة على ذاتها، يعلوها الصدأ من جميع جوانبها وضعت نفسها في تناقض مع موزاييك الأجناس في الجزائر. فأصبحت عاجزة عن استيعاب الحداثة ومنجزاتها.
إن هذا المنطق الاستعماري في التفكير، قاد  كامو، خريج قسم الفلسفة، إلى أن يؤسس له تاريخيا، من خلال سعيه الدءوب لتفكيك هذه الهوية المنغلقة على ذاتها. ولقد سهلت له الإدارة الاستعمارية المهمة، لما تكفلت بأحد مكوناتها، حين أعلنت أن العربية لغة أجنبية في الجزائر. فتفرغ لمحاربة الإسلام من خلال استدعائه لرموز تاريخية ما قبل الإسلام. فوجد ضالته عند القديس أوغسطين الذي روج له من أجل توطين المسيحية في الجزائر، ومنحها مشروعية داخلية. لقد كان اختيارا فكريا وأيديولوجيا واعيا، ولم يكن ضحية المركزية الأوروبية التي تلقاها في مطلع شبابه كما حاول أن يضللنا ستيفان باببيه.
أما  التلويح في كل مرة بشأن تحقيقه اليتيم  عن ''بؤس في منطقة القبائل''، فهذا لا يعني عدم قبوله بالاستعمار، إنما كان منزعجا من عدم أناقة فرنسا المتحضرة في تعاملها مع الأنديجان والبيكو. لكنه ظل وفيا لقناعاته الاستعمارية حتى بعد انطلاق الثورة منددا  ما كان يطلق عليه، إرهاب جبهة التحرير.
لكن السؤال المحير، لماذا هذا الإصرار على تضخيم  كامو، والعمل على تسويق بضاعته، الجميع يعلم أنها مغشوشة. هل لمجرد كونه ولد في الجزائر؟ أم هناك رسالة ما يريد إيصالها أصحاب القافلة ومن يقف وراء القافلة؟


ألبير كامو والاستشراق المعكوس

نقـــــــاش مفتوح ألبير كامو والاستشراق المعكوس
 ألبير كامو قادم إلى الجزائر من فرنسا، بمناسبة ذكراه الخمسين، بعضهم أرادها احتفالية، وآخر يريدها جنائزية. وبين هذا وذاك هناك من رفع شعار الصمت حكمة. وهذا التقابل في الرؤى أفصحت عنه مقالات صحفية، وندوات فكرية، وبيانات، وتهم متبادلة. بعضهم يراها علامة على وضع صحي، وآخر يراها شرخا أصاب النخبة وخللا في بنية الوعي. 
ولأني أنتمي إلى جيل ارتوى، حد الثمالة، من ينابيع الأيديولوجيا أكثـر من العلم، فإني أتساءل: كيف يتخاصم بعض الجزائريين والجزائريات حول أديب فرنسي، مات ودفن في فرنسا، وفي مقابر عظمائها؟ ولماذا الاحتفال أساسا بذكرى أديب فرنسي في الجزائر؟ ولماذا يتوسط كامو بالذات، وليس الفرنسيون أصدقاء الثورة الجزائرية الذين تنكرنا لهم، بين فرنسا والجزائر، في وقت يشهد جدلا واسعا حول صياغة الذاكرة؟ وما هي طبيعة الجهة، هنا وهناك، التي تشجع هذا المسعى؟ وما هي مصلحتها؟ ولماذا يتطوع بعض الجزائريين والجزائريات للدفاع عن الاحتفالية والمحتفلين والمحتفى به؟ هذه أسئلة ستظل قائمة، ولا يستقيم في تقديري فهم حقيقة القافلة إلا بالإجابة عنها.  وما استوقفني، ليس ذلك السجال الذي يعد عملا حيويا يعكس فاعلية فكرية نحتاج المزيد منها، ولا التباين في استنطاق وتأويل نص ألبير كامو، ولا تقابل الدارسين لأدب كامو في تحديد هوية ذاك الغريب وصاحب نص الغريب. هذا عمل مشروع يدخل في صميم نظرية الأدب. لكن ما استوقفني شيء آخر، هو محاولة استغلال نص كامو لتقديم قراءة لتراث الحركة الوطنية الجزائرية قد تجد من يختلف معها. هنا نكون قد انتقلنا من الأدب إلى الأيدلوجيا.
وأنا أشير هنا إلى ندوة جريدة الخبر التي نشطها الأستاذ الدكتور محمد الخضر معقال، وهو الأستاذ الجامعي والباحث المتخصص في هذا الحقل المعرفي، مما يضفي أهمية وقيمة كبرى على ملاحظاته. لكن رغم ذلك استوقفتني جمل ومفردات وعناوين، بدا لي أنها تحتاج إلى وقفة، أريد أن أستوضح بعضا منها. وما شجعني أكثـر على هذا السجال، ليس الكفاءة النظرية، ولا الصرامة المنهجية التي يتميز بها الأستاذ معقال، إنما الشجاعة  الفكرية التي تسلح بها، فلا أخفى توجهه ولا تستر على قناعته، ولا ساوم على أهدافه أثناء مرافعته عن ألبير كامو، فيعلن أن النخبة الجزائرية وعلى رأسهم مصطفى لشرف ومحمد الشريف ساحلي لم تحسن قراءة ألبير كامو. لأن صاحب نص الغريب، كان يتميز بأفق أكبر من عصره بكثير، وبنظرة ثاقبة واستشرافية لمستقبل الجزائر، من خلال إدراكه المبكر لتوجهات الحركة الوطنية الجزائرية، حيث ميز بين جناح معتدل يمكن أن يحقق التعايش بين الأهالي والمستوطنين {المعمرين} على أسس المواطنة والديمقراطية، يقوده عباس فرحات. وآخر راديكالي يمثل خطرا على فرنسا، يقوده مصالي الحاج، المدافع عن هوية الجزائر العربية الإسلامية التي تفتقد للفكر التنويري والديمقراطية، فظلت تقليدية بتبنيها اللغة العربية والدين الإسلامي كمقومات لها، مما يجعل التعايش بين شعوب الجزائر غير ممكن، ويحطم التناسق الاجتماعي بينها. وهذه الهوية المقترحة، لا تعكس الواقع الجزائري، إنما هي تبعية للمشروع الحضاري العربي الإسلامي بشقيه البعثي والناصري. ثم يضيف الأستاذ معقال معلومة أخرى غابت عن بال ألبير كامو، وهو الأثـر البالغ الذي تركه شكيب أرسلان على مصالي، الذي كان على اتصال دائم به. فكان لا يتخذ قرارا، حسب الأستاذ معقال، إلا بعد استشارته وموافقته. إن هذا التوجه العربي الإسلامي يعد في نظر كامو انحرافا وخطرا كبيرا يُفسد مشروع فرنسا التوسعي. وتهديدا حقيقيا لسياسة الاندماج والتعايش بين مختلف الأجناس الموجودة بالجزائر على أسس المواطنة التي كانت كما يرى الأستاذ معقال، وهو محق في ذلك، تشكل محور فكر ألبير كامو.
ألبير كامو كان واضحا وضوح الشمس في دعوته الاستعمارية، وإيمانه المطلق بجزائر فرنسية. لكن ما هو ليس واضحا، على الأقل بالنسبة لي، مرافعة الدكتور محمد لخضر معقال عن أفكار كامو إلى حد عده صاحب أفق تجاوز عصره، بل صاحب نظرة ثاقبة لمستقبل الجزائر. وأنا أتسأل هنا، أين تكمن بالضبط النظرة الثاقبة والآفاق الواسعة: هل بضياع حلمه في جزائر فرنسية، أم فاجعة جزائر مستقلة؟ أم الاثنان معا؟
أما بخصوص نشأة الوطنية الجزائرية، فمن العبث، النظري والمنهجي، محاكمتها من خلال مفردات إلحاقية، اندماجية، يكشف عن غياب الوعي التاريخي والحس النقدي.
إن مفردات المواطنة والديمقراطية، و التنوير، والسلم الاجتماعي، وإرادة العيش المشترك، في ظل شرطها التاريخي، أي في ظل الهيمنة الاستعمارية، تعد مفردات تشكل الترسانة الأيديولوجية الاستعمارية. أي جزء مكون لأيديولوجيا الهيمنة والسيطرة. لأن الأفكار لا تتصارع بسبب شكل حداثتها أو تقليديتها، إنما سبب مضمونها الفكري والأيديولوجي وحاملها الاجتماعي. فكثيرا من الأفكار والمصطلحات البراقة تفوح منها روائح التقدم والحداثة والعصرنة وظفت أيديولوجيا، فتحولت أداة سيطرة واستبداد. كما أن الكثير من الأفكار التقليدية الموغلة في القدم، في ظل وضع تاريخي محدد، لعبت دورا تحرريا ثوريا، يعود ذلك لحاملها الاجتماعي . والمقصود بالحامل الاجتماعي، صانعي الأحداث، الذين يمنحون المعنى والدور والوظيفة للكلمات، فتتحول على أيديهم إلى قوة مادية كفاحية. وهذا يدخل في جدلية تحويل القديم إلى جديد. وهي المهمة التي تكفلت بها الحركة الوطنية. وهذا يحتاج إلى وقفة خاصة. 


jeudi 26 mai 2011

عبد الله شريط: من معركة السلاح إلى معركة المفاهيم



" إننا نحن الشعوب المتأخرة يتحكم فينا الأموات أكثر مما تتحكم فينا الحياة و مشاكلها...لهذا لا يوجد   عندنا تفكير في المستقبل، المستقبل عندنا   هو عالم خارج هذا العالم، هو الآخرة وحدها "
  بهذا الوضوح و الدقة ودلالة المعنى، يكون المفكر الراحل  عبد الله شريط ، ، قد لخص ،في مطلع سبعينيات القرن الماضي  أزمة  العرب ، و الفكر العربي  بأبعاده و مضامينه وتداعياته المختلفة . يفصح عنه  تكوينه المزدوج الفلسفي و التراثي. فهو الوارث للتقاليد الفلسفية العريقة لقسم الفلسفة بجامعة دمشق، و الناشئ في أحضان جمعية العلماء وأروقة جامع الزيتونة.
لقد مكنه تكوينه  المتنوع والخصب  من الوقوف  عند التحديات التي واجهت الثقافة العربية  و الأسئلة  الجديدة غير المألوفة التي جابهت العرب و تراثهم  ، فأصبح وجودهم التاريخي والحضاري  مرهونا بمدى قدرة تراثهم  على الدخول في حوار جدي مع أسئلة الراهن وتعيناته وحقائقه الموضوعية ، مما لم  يعد بمقدور أي مفكر تجاهلها أو القفز عليها  أو التهوين من قيمتها  .لكن هذا التراث ، هذا الحارس  للذات، هذا الحامي للهوية الجماعية، و الصامد في وجه التاريخ وتقلباته ، شاخ ولم يعد يقوى على الصمود ، كما جفت منابعه واستنفد تاريخه في منتصف القرن التاسع عشر مع مشروع الحداثة .فلم يعد يملك القدرة  ولا يقوى على الإجابة  عن أسئلة الحداثة الكونية ، التي أنتجت عالما جديدا ، ونسقا حضاريا جديدا ، وإنسانا جديدا  جعلته  سيدا مطلقا  وقيمة كبرى ومحور الكون.
هذه المحنة الحضارية المزدوجة   كرس ،المفكر الراحل عبد الله  شريط  ،حياته  بكاملها للتصدي لها ، تأليفا وتدريسا. فكان يلفت انتباه طلبته بقسم الفلسفة ،الذين كان يعاملهم بمحبة وصدق وتواضع ، أن الفلسفة في الوطن العربي يجب أن تضع على رأس جدول أعمالها مهمة مزدوجة: الأولى تقديم إجابات كبرى  عن الأسئلة الكبرى التي طرحها العالم الجديد  على الدنيا كلها ،و الثانية ضرورة التعامل  بجدية ومسؤولية  مع حقائق العصر الموضوعية  ومكاسبه  الإنسانية  وفتوحاته العلمية التي لا تخطئها العين ولا يتجاهلها عاقل. ومن كان  يتعنت ويردد  أن السلف أجاب عن كل الأسئلة و لم يترك شيئا للخلف، وأن الأمة لا يصلح آخرها إلا بما صلح به أولها  .فكان كعادته يصغى بهدوء و بتواضع شديد  وهو يبتسم  ويحث على المزيد  و لا يقاطع .و يكتفي برد، كثيرا ما يردده،." من كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل السبيل "
غير أنه ظل دائم التحذير لطلبته، حتى من كان يفتخر بهم وسعد بصحبتهم لما أصبحوا زملاء له.   بخاصة أولئك الذين عادوا من بعثات الخارج حاملين رايات  التنوير و التقدم و الحداثة و العقلانية، و لا يقبلون بأقل من المجابهة مع الماضي، و تصفية الحساب مع التراث بوصفه شيئا تافها لا يستحق الذكر ، كان يحذرهم  شديد الحذر من الانزلاق نحو إعادة إنتاج الخطاب الاستشراقي، فالنظرة العقلانية و النقدية للترات ،كما كان يؤكد ،يجب ألا تقود إلى السقوط في العدمية، لأن  ذلك  يقود  على المستوى النظري إلى " الوقوع في الزيف إذا رحنا نستعير القوالب الذهنية الأوروبية ونصب فيها وقائعنا الحضارية " أما على المستوى المنهجي  تنتهي  إلى السقوط في النزعة  التخطيطية والميكانيكية المبتورة التي لا تقود إلى أي نتيجة و تجد نفسها في طريق مسدود ، لأنها تفتقد للفكر الجدلي الخلاق المبدع . وكثيرا ما كان يذكرهم  بقصة، الفيل  والعميان ، لما أمسك كل واحد منهم  جزءا  من  الفيل  وراح يصف الجزء بوصفه الفيل بأكمله  .لهذا كان  يقول أن الكل أكبر من مجموع أجزائه .
هذه النظرة العميقة الشاملة نراها واضحة في كل ما كتب وألف، في حقول معرفية مختلفة،  في التربية والتعليم، في فلسفة الأخلاق و السياسة، وفلسفة التاريخ. كما تجلت في إسهاماته التنظيرية في الفلسفة الإسلامية .لكن اهتماماته ظلت منصبة  بشكل خاص  على التأسيس الفكري والأيديولوجي للحركة الوطنية وبناء  الدولة  الوطنية العصرية، لأنه كان على وعي تام ، وكما يقول، وهو متأثر في ذلك  بفيلسوف ألمانيا الكبير هيغل  " أن وجود المجتمع لا يقاس بوجود أفراده ،فهو يدخل التاريخ منذ اليوم الذي تشكل  فيه لذلك المجتمع دولة  ،لأن الدولة هي عقل المجتمع ،هي  الوجود الفكري له ،فالمجتمع لا يدخل  الوجود  الإنساني قبل أن  يمتلك  العقل، أي الدولة "
. لكن  هذا الاستخلاص النظري الفلسفي الهيغلي المجرد والعام لم  يشرح له  ،بما فيه الكفاية ،سر انحطاطنا وتخلفنا و ركودنا التاريخي، فراح يبحث عن تعينات موضوعية  في التاريخ  الخاص ، فوجدها  عند ابن خلدون  الذي خصص له رسالة الدكتوراه  عن الفكر الأخلاقي عند  ابن خلدون.  عندها  تكشف له، لما  غابت  الأخلاق عن السياسة ، أصبح  : "الحكم  عندنا، غنيمة وليس مسؤولية ، وشهوة وليس قانونا ، وتسلط وليس تنظيما"



mercredi 25 mai 2011

الإسلام السياسي في تونس : هل يتزيّن بالشاشية التونسية



الإسلام السياسي في تونس : هل يتزيّن  بالشاشية التونسية               
تقدمت حركة النهضة في تونس إلى وزارة الداخلية بطلب الاعتماد .هذا يعني أن الإسلام السياسي
 سيخضع مرة أخرى إلى امتحان آخر في تونس، بعد التجارب الفاشلة التي عرفها في معظم الأقطار العربية. انتهى البعض منها إلى حركات ظلامية ،وبعض آخر فظل اقتسام الريع مع أنظمة فاسدة ومستبدة . بينما استطاع أن يعيد صياغة نفسه ،خارج العالم العربي، وفق منظور عصري.
لقد أيقظ نجاح هذه التجارب خارج العالم العربي ،و إخفاقها عربيا ، وعيا جديدا كشف للكثير من الحركات الإسلامية ، أن مرجعياتها وآلياتها ومفرداتها وممارساتها وأساليب عملها لم تعد قادرة على تقديم حلول ملموسة ،أو اقتراحات نظرية فانتهت إلى مأزق تاريخي . أدى  إلى  ما أصطلح على تسميته في أدبيات الحركات الإسلامية "المراجعات الفقهية" وهو اعتراف صريح، ليس بفشل التجربة فحسب ،بل يتعدى ذلك  إلى بنية الفكر الديني الذي لم يعد، في جانب كبير منه،قادرا على الاستجابة لمهام الحاضر ما تطلب إعادة النظر في الكثير من مكوناته.  .
يعد أستاذ الفلسفة  راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة  ومنظّرها ، العائد إلى تونس  من منفاه ،من الوجوه التجديدية .تفصح عنها  إسهاماته الفكرية المتنوعة حول علاقتنا بماضينا و بحاضرنا وبالآخر، مكنته من إيجاد صيغة بين ماضي الإسلام وقيم العصر مثل المواطنة و الديمقراطية وحقوق الإنسان والعلاقة مع الغرب المتقدم الذي يراه حقيقة تاريخية كبرى وليس دار حرب  .
هذه التوليفة الفكرية المستنيرة مصدرها خصوصية تاريخية محلية منحتها أبعادها النظرية تكوينه الفكري المتنوع وتجاربه السياسية المختلفة، فهو من جهة وارث تقاليد الإسلام المتمدن، إسلام الحواضر الذي يجد تعبيره في إسلام الزيتونة المعتدل مكنه من التعامل مع نصوص الإسلام برحابة واسعة معتمدا عل آلية عقلانية وهي مقاصد الشريعة  التي  يتكئ  عليها وعلى رموز إسلام الزيتونة  في تأصيله الفكري، مما جعله يبتعد عن إسلام الإخوان المسلمين.
هذه النظرة المتقدمة أسهمت في تعميقها الشهادة العلمية من قسم الفلسفة بجامعة دمشق فقد  مدته بأدوات نظرية ومنهجية  مكنته من الإطلالة على العصر بأدواته جعلته يطلع على التيارات الفكرية العصرية .حيث  عرف عنه في بداية حياته الفكرية تأثره بالفكر القومي ونظريته في الأمة وبناء الدولة العصرية.ولقد عايش هذه المؤسسات العصرية عن كثب وتمتع بمزاياها  أثناء منفاه في الغرب. فكانت تجربة إضافية عمقت خلفيته الفكرية وطورت رؤيته السياسية تجلت بشكل واضح في كتبه المختلفة وممارساته السياسية.و يعد حاليا من الفاعلين في الحوار القومي الإسلامي.
 ذلك كله جعل منه رمزا دينيا وقائدا سياسيا جلبت له أنصارا و مردين، كما مكنته لاحقا أثناء قيادته لحركة النهضة من الانفتاح على كل القوى الوطنية ليبرالية ويسارية بلغت حد التحالف في مرات كثيرة ضمن برنامج وطني.
لكن هذه الاجتهادات الفقهية و الصياغات النظرية ،على أهميتها ،لا نعلم  إلى أي مدى تصمد أمام القطيعة التي أحدثتها الثورة مع الكثير من المرجعيات، جعلت تونس الجديدة  تجابه أسئلة جديدة  ورهانات جدية بعد إسقاط النظام الذي لقي إجماعا وطنيا .لكن إعادة بناء المجتمع  لن يترك بين يدي هذا السياسي أو ذاك الواعظ .لأن الثورة أسقطت الواحد الأحد وتدخلت الجماهير في صنع مصيرها وتاريخها.كما أنه وفي المدى القريب جدا ستتصدر الأحداث، المسألة الاجتماعية، ومطالب الناس الملحة التي لا تقبل التأجيل ولا تنتظر حلولها في حياة ما بعد القبر. عندها تتبدد الكثير من الأوهام عن المجتمع الفاضل والمفهوم الغامض للأخوة الإسلامية.
ذلك يجعل حركة النهضة أمام  رهانات فكرية جديدة   يتعذر أن تستل أجوبتها من ماضي غابر ولا من أدبياتها السابقة، مما يتطلب إعادة القراءة من مستوى ينطلق من التاريخ الجديد الذي صنعته الثورة، بخاصة أن المجتمع التونسي يمتلك وعيا سياسيا متقدما و يتوفر على طبقة وسطى واسعة ومتعلمة ستبتسم سخرية من الشعارات القادمة من حطام التاريخ .
إذا تمكنت حركة النهضة من الانخراط في هذه المهام، و تتفاعل مع القوى الحية داخل المجتمع  وتتخلى عن الأوهام التاريخية وتجعل مثلها الأعلى قيم العصر، عندها تكتمل ثورة تونس ، وعندها يحق لهذه الثورة أن تفخر أن تونس البلد العربي الصغير قدم للعرب نظرية كبيرة.