jeudi 26 mai 2011

عبد الله شريط: من معركة السلاح إلى معركة المفاهيم



" إننا نحن الشعوب المتأخرة يتحكم فينا الأموات أكثر مما تتحكم فينا الحياة و مشاكلها...لهذا لا يوجد   عندنا تفكير في المستقبل، المستقبل عندنا   هو عالم خارج هذا العالم، هو الآخرة وحدها "
  بهذا الوضوح و الدقة ودلالة المعنى، يكون المفكر الراحل  عبد الله شريط ، ، قد لخص ،في مطلع سبعينيات القرن الماضي  أزمة  العرب ، و الفكر العربي  بأبعاده و مضامينه وتداعياته المختلفة . يفصح عنه  تكوينه المزدوج الفلسفي و التراثي. فهو الوارث للتقاليد الفلسفية العريقة لقسم الفلسفة بجامعة دمشق، و الناشئ في أحضان جمعية العلماء وأروقة جامع الزيتونة.
لقد مكنه تكوينه  المتنوع والخصب  من الوقوف  عند التحديات التي واجهت الثقافة العربية  و الأسئلة  الجديدة غير المألوفة التي جابهت العرب و تراثهم  ، فأصبح وجودهم التاريخي والحضاري  مرهونا بمدى قدرة تراثهم  على الدخول في حوار جدي مع أسئلة الراهن وتعيناته وحقائقه الموضوعية ، مما لم  يعد بمقدور أي مفكر تجاهلها أو القفز عليها  أو التهوين من قيمتها  .لكن هذا التراث ، هذا الحارس  للذات، هذا الحامي للهوية الجماعية، و الصامد في وجه التاريخ وتقلباته ، شاخ ولم يعد يقوى على الصمود ، كما جفت منابعه واستنفد تاريخه في منتصف القرن التاسع عشر مع مشروع الحداثة .فلم يعد يملك القدرة  ولا يقوى على الإجابة  عن أسئلة الحداثة الكونية ، التي أنتجت عالما جديدا ، ونسقا حضاريا جديدا ، وإنسانا جديدا  جعلته  سيدا مطلقا  وقيمة كبرى ومحور الكون.
هذه المحنة الحضارية المزدوجة   كرس ،المفكر الراحل عبد الله  شريط  ،حياته  بكاملها للتصدي لها ، تأليفا وتدريسا. فكان يلفت انتباه طلبته بقسم الفلسفة ،الذين كان يعاملهم بمحبة وصدق وتواضع ، أن الفلسفة في الوطن العربي يجب أن تضع على رأس جدول أعمالها مهمة مزدوجة: الأولى تقديم إجابات كبرى  عن الأسئلة الكبرى التي طرحها العالم الجديد  على الدنيا كلها ،و الثانية ضرورة التعامل  بجدية ومسؤولية  مع حقائق العصر الموضوعية  ومكاسبه  الإنسانية  وفتوحاته العلمية التي لا تخطئها العين ولا يتجاهلها عاقل. ومن كان  يتعنت ويردد  أن السلف أجاب عن كل الأسئلة و لم يترك شيئا للخلف، وأن الأمة لا يصلح آخرها إلا بما صلح به أولها  .فكان كعادته يصغى بهدوء و بتواضع شديد  وهو يبتسم  ويحث على المزيد  و لا يقاطع .و يكتفي برد، كثيرا ما يردده،." من كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل السبيل "
غير أنه ظل دائم التحذير لطلبته، حتى من كان يفتخر بهم وسعد بصحبتهم لما أصبحوا زملاء له.   بخاصة أولئك الذين عادوا من بعثات الخارج حاملين رايات  التنوير و التقدم و الحداثة و العقلانية، و لا يقبلون بأقل من المجابهة مع الماضي، و تصفية الحساب مع التراث بوصفه شيئا تافها لا يستحق الذكر ، كان يحذرهم  شديد الحذر من الانزلاق نحو إعادة إنتاج الخطاب الاستشراقي، فالنظرة العقلانية و النقدية للترات ،كما كان يؤكد ،يجب ألا تقود إلى السقوط في العدمية، لأن  ذلك  يقود  على المستوى النظري إلى " الوقوع في الزيف إذا رحنا نستعير القوالب الذهنية الأوروبية ونصب فيها وقائعنا الحضارية " أما على المستوى المنهجي  تنتهي  إلى السقوط في النزعة  التخطيطية والميكانيكية المبتورة التي لا تقود إلى أي نتيجة و تجد نفسها في طريق مسدود ، لأنها تفتقد للفكر الجدلي الخلاق المبدع . وكثيرا ما كان يذكرهم  بقصة، الفيل  والعميان ، لما أمسك كل واحد منهم  جزءا  من  الفيل  وراح يصف الجزء بوصفه الفيل بأكمله  .لهذا كان  يقول أن الكل أكبر من مجموع أجزائه .
هذه النظرة العميقة الشاملة نراها واضحة في كل ما كتب وألف، في حقول معرفية مختلفة،  في التربية والتعليم، في فلسفة الأخلاق و السياسة، وفلسفة التاريخ. كما تجلت في إسهاماته التنظيرية في الفلسفة الإسلامية .لكن اهتماماته ظلت منصبة  بشكل خاص  على التأسيس الفكري والأيديولوجي للحركة الوطنية وبناء  الدولة  الوطنية العصرية، لأنه كان على وعي تام ، وكما يقول، وهو متأثر في ذلك  بفيلسوف ألمانيا الكبير هيغل  " أن وجود المجتمع لا يقاس بوجود أفراده ،فهو يدخل التاريخ منذ اليوم الذي تشكل  فيه لذلك المجتمع دولة  ،لأن الدولة هي عقل المجتمع ،هي  الوجود الفكري له ،فالمجتمع لا يدخل  الوجود  الإنساني قبل أن  يمتلك  العقل، أي الدولة "
. لكن  هذا الاستخلاص النظري الفلسفي الهيغلي المجرد والعام لم  يشرح له  ،بما فيه الكفاية ،سر انحطاطنا وتخلفنا و ركودنا التاريخي، فراح يبحث عن تعينات موضوعية  في التاريخ  الخاص ، فوجدها  عند ابن خلدون  الذي خصص له رسالة الدكتوراه  عن الفكر الأخلاقي عند  ابن خلدون.  عندها  تكشف له، لما  غابت  الأخلاق عن السياسة ، أصبح  : "الحكم  عندنا، غنيمة وليس مسؤولية ، وشهوة وليس قانونا ، وتسلط وليس تنظيما"



Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire